عندما “نُشر” الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي بمناشير فرقة القتل السعودية التابعة لولي العهد محمد بن سلمان، في واحدة من أفظع جرائم القتل والتصفية بحق معارض سياسي، كانت الواقعة إيذانا بدخول العلاقات الأميركية السعودية إلى ركن مظلم أكثر اضطرابا وأقل ودا.
مع مرور الوقت، أدرك حكام الرياض أن عامل الزمن وحده ليس كفيلا بحل الأزمة، وأن عليهم المبادرة بطريقة مختلفة لإذابة الجليد القائم، وتحديدا المتعلق بابن سلمان، الشخص الأهم والأكثر ثقلا داخل العائلة الملكية، والحاكم الفعلي للبلاد.
الرحلة الأخيرة إلى واشنطن، التي قادها الأمير خالد بن سلمان، الشقيق الأصغر لولي العهد، جاءت حاملة الكثير من الإرهاصات والتوقعات، لحلحة الإشكاليات، وغسل سمعة ابن سلمان لدى صناع السياسة الأميركية.
لا سيما، أن الأمير خالد هو أثقل مسؤول سعودي يحط رحاله في البيت الأبيض منذ تصفية خاشقجي، ما يؤكد أنه ذهب محملا برسائل وتفاهمات، غرضها العودة إلى مربع ما قبل المحنة.
ملف خاشقجي
انطلق نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، صوب أميركا في رحلة مفاجئة يوم 7 يوليو/ تموز 2021، في أول زيارة سعودية رسمية في عهد إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن”.
وكالة الأنباء السعودية (واس)، أعلنت في اليوم التالي لوصول شقيق بن سلمان، أنه عقد مباحثات موسعة مع مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية، على رأسهم وزير الدفاع “لويد أوستن”، وكذلك رئيس هيئة الأركان المشتركة “مارك ميلي”، ووكيل وزارة الدفاع الأميركية للسياسات “كولن كاهل”.
من جانبها، أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، في إطار تناولها لزيارة نائب وزير الدفاع السعودي، أنها من المؤشرات الدالة على أن إدارة “بايدن” ربما تطوي صفحة مقتل خاشقجي.
الرئيس الأميركي”جو بايدن”، تعهد أثناء حملته الرئاسية بمحاسبة بن سلمان، مع ما خلص إليه تقرير استخباراتي أميركي أفرجت عنه إدارة البيت الأبيض في فبراير/ شباط 2021، أفاد أن ولي العهد أعطى الإذن باغتيال خاشقجي.
وفي 6 يوليو/ تموز 2021، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض “جين ساكي”: إن موضوع “خاشقجي” من المرجح أن يناقش خلال الاجتماعات مع الأمير خالد بن سلمان.
بيان صحفي من البيت الأبيض، أشار إلى أن مستشار الأمن القومي الأميركي “جيك سوليفان”، شدد على “أهمية التقدم في مجال حقوق الإنسان في السعودية”
أكثر تعقيدا
همة الشقيق الأصغر لولي العهد السعودي، لم تقتصر على مناقشة قضية خاشقجي منفردة، بل بحث ملفات إقليمية معقدة، وصراعات مريرة انخرطت فيها الرياض منذ سنوات.
وهو ما حدث عندما التقى بوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، في 8 يوليو/ حزيران 2021، وطلب دعم الرياض للدفاع عن نفسها من هجمات الحوثيين المدمرة عبر الحدود.
الأمير خالد من جانبه غرد عبر “تويتر” عن اللقاء، ووصفه بأنه كان “عظيما”.
المتحدث باسم البنتاجون “جون كيربي”، قال عن زيارة خالد بن سلمان: إن “المسؤولين الأميركيين ناقشوا سبل العمل مع الرياض لمواجهة الطائرات المسيرة المسلحة، السلاح الأكثر استخداما من قبل الجماعات المرتبطة بإيران لمهاجمة السعودية”.
ولم يغفل أن زيارة الأمير “خالد” والحديث في قضايا التسليح والدفاع، جاءت في وقت حرج مع إقدام إدارة بايدن على سحب العديد من أنظمة الدفاع الجوي من السعودية أخيرا.
ومع ذلك أشاد قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط الجنرال “كينيث مكينزي” بالتقدم في مساعدة القوات المسلحة السعودية على تعزيز دفاعاتها الجوية الجديدة.
القضية الأخرى التي تشكل هاجسا مستمرا لدى الرياض وولي العهد السعودي، تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، وإعادة المباحثات بين واشنطن وطهران مرة أخرى.
“قناة الحرة” الأميركية قالت: إن هذه الجزئية تحديدا تم طرحها من قبل الأمير خالد، مع بحث الأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وآخر مستجدات العلاقة مع إسرائيل.
مسارات مركبة
وعلى صعيد آخر، لم يكن الأمير خالد فقط هو من يحمل التخوفات ويسعى إلى فتح صفحات جديدة مع الإدارة الأميركية، إذ إن حكام البيت الأبيض بدورهم يعملون على إذابة الخلافات وتحقيق نقلة نوعية في العلاقة الباردة.
وهو ما أورده موقع “المونيتور” الأميركي في 7 يوليو/ تموز 2021، حين قال: “المخاوف الإستراتيجية لدى بايدن بشأن تعزيز الوضع العسكري للصين همشت التزام الإدارة العلني بحقوق الإنسان في السعودية وتصعيد الحديث عن مقتل خاشقجي”.
وأضاف: “بالرغم من وصف السعودية بالدولة المنبوذة، تواصل إدارة بايدن النظر إلى القوة الاقتصادية للرياض كركيزة للاستقرار في الشرق الأوسط، في وقت يركز فيه المسؤولون الأميركيون انتباههم على أماكن أخرى”.
وذكر الموقع الأميركي أن “واشنطن تأمل في خفض التوترات بين السعودية وإيران ووكلائها في المنطقة، ويلعب الأمير خالد دورا رئيسا في محادثات بلاده مع المسؤولين الإيرانيين في بغداد”.
ويأتي التقارب الصيني السعودي كعامل أساسي ضمن حلحلة الرؤية الأميركية.
وفي 8 أغسطس/ آب 2020، نشر موقع “روسيا اليوم” تقريرا عن الشركات الصينية التي تساعد المملكة في تنظيم إنتاج اليورانيوم المخصب الذي يستخدم في تطوير أسلحة نووية.
وأكدت أنه لدى السعوديين طموحات كبيرة لتطوير الطاقة النووية في بلادهم.
وكانت هذه إحدى أكثر نقاط القلق بالنسبة لواشنطن، فبالإضافة إلى الخشية من اشتعال سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، فإن دخول الصين كضامن وداعم للرياض في هذه المسألة حدث لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه.
وهو ما أكدته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في 6 أغسطس/ آب 2020، مع كشفها عن مخاوف واشنطن بشأن البرنامج النووي السعودي، والحجم الفعلي للأنشطة الرامية لتطوير أسلحة نووية.
وجاء إرسال الأمير خالد بن سلمان تحديدا إلى أميركا، وبحثه كل هذه الملفات والقضايا العسيرة، كوضع طبيعي تجاوزا لمستقبل مبهم قد يحمل الكثير من المفاجأت.
سبب الاختيار
ولعل ولي العهد رأى في خالد بن سلمان الرجل المناسب لإعطائه الثقة الكاملة في هذه الرحلة المفصلية، لعدة أسباب.
أهمها أنه كان يشغل منصب سفير بلاده في واشنطن لسنوات، قبل أن تستدعيه الرياض للقيام بدوره كنائب لوزير الدفاع.
ابن سلمان استدعى أخاه خالدا لشغل هذا المنصب في 23 فبراير/ شباط 2019.
وكانت تقارير إعلامية تحدثت أن الملك يود أن تستمر إقامة خالد الرسمية في واشنطن لمواصلة عمله في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، لكن ابن سلمان رأى وجوده بجانبه أفضل.
واليوم يستخدمه في بعثته خاصة لأن خالدا محبوب في الأوساط الصناعية الأميركية، وتربطه بهم علاقات وثيقة.
كما يتمتع بعدة مميزات، أهمها درجات التعليم العالية التي حصل عليها في الداخل والخارج.
إذ تخرج من كلية الملك فيصل الجوية بالرياض، وحضر الملك سلمان (كان حينها وليا للعهد) بنفسه حفل تخرجه.
انضم بعدها إلى القوات الجوية الملكية السعودية، وتلقى تدريبه الأول في قاعدة راندولف الجوية في سان أنطونيو، بولاية تكساس.
وتلقى التدريب المتقدم في قاعدة كولومبوس الجوية في كولومبوس بولاية ميسيسيبي.
كما درس الحروب الإلكترونية المتقدمة في فرنسا، وتقدم للدراسات العليا في جامعة جورجتاون للحصول على درجة الماجستير في الآداب في تخصص الدراسات الأمنية.
لكن حالت انشغالاته بالمناصب التي تولاها دون استكمال الدراسة.
ثم عمل خالد بن سلمان طيارا لطائرة من طراز (F-15)، وضابط استخبارات تكتيكي في القوات الجوية الملكية السعودية.
وقام بالعديد من المهام القتالية الجوية، في القوات الملكية السعودية، كجزء من حملة التحالف الدولي ضد “تنظيم الدولة” في سوريا وكجزء من عمليتي عاصفة الحزم وإعادة الأمل في اليمن.
تلك المؤهلات جعلت خالد بن سلمان، على رأس الفريق المرسل من قبل ولي العهد لاختراق حاجز الجمود المتعلق بشخصه، مع الإدارة الأميركية الحالية.
