ديانا مقلد
“أنا متفائلة بأنه في السنوات العشر المقبلة سيكون لدينا فضاء عام أكثر إنسانية وأكثر أمناً للنساء”.
بعد أقل من أسبوع على كلماتها هذه، اختفت الأستاذة والكاتبة السعودية هتون الفاسي، أو على نحو أدق، اعتُقلت. ففي 21 حزيران/ يونيو الماضي نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” ، تحقيقاً موسعاً عن التطورات الحاصلة في السعودية. ونقل كاتب الموضوع روجر كوهين، مشاهدات ومقابلات ميدانية، من بينها تعليقات لهتون الفاسي، وهي واحدة من السعوديات اللواتي طالبن لسنوات بحق المرأة بالقيادة والمساواة.
نقل كوهين في مقابلته عن الفاسي قولها إنها تلقت مباشرة وبعد أربع ساعات من إعلان السماح بقيادة المرأة السعودية في أيلول/ سبتمبر عام 2017، اتصالاً من مسؤول طلب منها الصمت وعدم التفاعل مع القرار عبر “السوشيل ميديا”. ويكمل كاتب مقال “نيويورك تايمز” بأنه فوجئ بجرأة مقاربة الفاسي للأوضاع في بلادها، وبأنها استنتجت حينها أن الحكومة لا تريد للإنجاز (قيادة المرأة) أن ينظر إليه بصفته نصراً لحملة حقوقية، وبأنها قلقة من تركز السلطة في شخص واحد هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي وصفته بأنه، “يفتقر للحكمة… هناك الكثير من الخطوط الحمر الجديدة والقديمة، وهناك رقابة دائمة ودعوات إلى حظر أي إعلام يتم وصفه بأنه “معادٍ للسعودية”.
هل كانت تلك المقابلة وهذا التصريح خلف انضمام هتون الفاسي إلى لائحة طويلة لا تنفك تتزايد لمعتقلين ومعتقلات في السعودية؟
من هي هند الفاسي؟
ترجح شخصيات على معرفة وثيقة بالفاسي أن يكون تصريحها لصحيفة “نيويورك تايمز” قد حسم قراراً باعتقالها كان يتم التحضير له منذ مدة. وعلى رغم مرور نحو شهر على اختفائها، إلا أنه لم يعلن رسمياً أي بيان عن أسباب هذا الاعتقال أو عن مصيرها، كما لم ينشر خبر توقيفها في أي صحيفة سعودية، لكن أعلن ناشطون أنها اختفت لتعقب انتشار الخبر هذا حملة تشهير وتخوين عبر “السوشيل ميديا” وتحديداً “تويتر”، فاستخدمت التهم ذاتها التي طاولت المعتقلات والمعتقلين الذين أوقفوا في حملة الأسابيع الأخيرة، فوصفت بأنها عميلة لقطر وإرهابية.
قبل أيام من اعتقالها ظهرت الفاسي في مقابلة أعلنت فيها حماستها لقيادة سيارتها حين يحل الموعد الرسمي في 24 حزيران، وانتقدت ارتباك أجهزة المرور في تأمين رخص القيادة للنساء، لكن اعتقلت الفاسي قبل الموعد الذي كانت تحضر نفسها له.
وهتون الفاسي شخصية معروفة جداً في السعودية والخليج، فهي كاتبة عمود في صحيفة الرياض واستاذة في جامعة الملك سعود، ولها مشاركات حوارية عبر وسائل إعلام، وكثيراً ما تثير الجدل سواء لجهة مظهرها أو لجهة مواقفها. فهي مثلاً تحرص على الظهور بزي محلي وبعقدة رأس مميزة، وقد بررت ذلك بأن مظهرها يحاكي اللباس التقليدي لنساء الحجاز. لكن البعض حمل عليها واتهمها بأنها تدعو إلى انفصال الحجاز.
والحملات ضد هتون الفاسي تتجاوز السعودية، فهي دعت في زيارة لها إلى الدوحة عام 2016 القطريات للمطالبة بحق منح الجنسية لأطفالهن، ما تسبب بهجوم شرس ضدها ودعوات إلى طردها من قطر.
وعلى غرار المعتقلات والمعتقلين السابقين، لم تصرح عائلة الفاسي بأي معلومة عما حدث، ولم تتبلغ رسمياً أي معلومة واضحة عن مصيرها. وهتون سيدة متوسطة العمر وهي ابنة الشيخ الصوفي أجواد الفاسي وهو رجل معروف في السعودية وصاحب صالون حوار مفتوح يستضيف فيه شخصيات ثقافية. وكثيراً ما تعرض الشيخ الفاسي لحملات تكفير وتخوين بسبب قناعاته الصوفية التي ينظَر إليها بازدراء في السعودية، وقد تضاعفت هذه الحملات بعد اعتقال ابنته لتتهم العائلة بأنها غير مخلصة للسعودية من خلال التشكيك بولائهم كونهم من جذور مغربية.
الانفتاح ليس على المعارضة
واليوم وعلى رغم الأجواء الاحتفالية التي تعيشها السعودية إعلامياً بعد السماح للنساء بقيادة السيارة والإعلان عن تحضر بعض السعوديات لقيادة الطائرات، ومع كل حملات الدعاية والترويج لخطوات الانفتاح الحاصلة والمهرجانات الفنية والثقافية والرياضية، يسود في المقابل قلق كبير جراء تكريس مبدأ الاعتقال والسجن كواحد من أعمدة تثبيت السلطة.
تتركز الأضواء على حملات الدعاية والترويج لخطة 2030 التي تختصر فلسفة حكم ولي العهد، وقوامها اعتمادٌ أقل على النفط، وتطوير مساحات الترفيه والأعمال والسياحة، وتمكين النساء من سوق العمل، ومن جهة ثانية إطلاق اليد سياسياً وخنق أي محاولة للمساءلة أو الاعتراض. هذه هي السعودية التي يحاول الأمير محمد بن سلمان تسويقها للعالم، ويواصل الحضّ على المشاركة في حال الاحتفال المستمر في بلاده بشأن التغييرات فيها.
والبلاد تعيش على وقع الاعتقالات التي طاولت أكثر من عشر ناشطات سعوديات بارزات في الأسابيع الماضية، كما طاولت حقوقيين ومثقفين ورجال دين، وحتى أمراء، في توقيفات فندق الريتز الشهيرة التي حصلت الخريف الماضي. لكن توقيفات الأمراء وسمت بأنها لضبط الفساد وتمت تسوية معظمها بعد اتفاقات لم تتضح بنودها. الأمر يختلف مع الحقوقيين والحقوقيات الذين تم تقديمهم جميعاً بصفتهم خونة وإرهابيين. وحملات التخوين والإدانة حصلت إعلامياً ومن دون محاكمات واضحة ومن دون السماح بالنقاش حولها.
في مقابلة في شهر آذار/ مارس الماضي مع برنامج 60 دقيقة الأميركي سألت المذيعة ولي العهد السعودي عن حملة الاعتقالات بحق المعارضين فأجاب، “ما تفعله الحكومة السعودية هو لمكافحة الإرهاب”، مضيفاً أن السعودية تؤمن بمبادئ حقوق الإنسان لكن، “معايير السعودية تختلف عن معايير الولايات المتحدة”، كما قال أن الاعتقالات التي طاولت أمراء ورجال أعمال منسجمة مع القوانين والممارسات السعودية…
تظهر سلسلة الاعتقالات التي تحصل ازدواجية كبرى بين إجراءات صارمة تمارسها السلطات السعودية ضد نشطاء حقوق المرأة وضد المعارضين عموماً، وبين حملات العلاقات العامة والإشادة الدولية بالإصلاحات التي طالبت بها الناشطات منذ فترة طويلة. فبينما ينهمك الإعلام العالمي بخطوات فتح دور السينما وقيادة المرأة والسماح للنساء بحضور مباريات الرياضة ومراقبة الحركة الجوية وشرطة المرور وغيرها من المجالات التي كانت محظورة على النساء، تبدو السلطة ماضية في إجراءات الاعتقال بالزخم نفسه، لكن من دون أي ضجة.
لقد هنأ عدد كبير من قادة العالم ولي العهد السعودي على رفع الحظر على القيادة لكن أحداً لم ينبس بشأن الاعتقالات إلا قلة قليلة جداً…
والنساء هن جزء من استراتيجية الأمير لإظهار أنه كسر القاعدة التاريخية في السعودية، التي كرست موقعاً هامشياً للنساء على مدى عقود، لكن الاعتقالات تظهر بأنه يحاول اجتراح توازن ما، تجاه مدى الانفتاح الذي يريد السماح به من جهة، ومدى الالتزام بسلطته ومرجعيته من جهة أخرى.
حالياً، هناك صمت مريب، ففي ما خلا حملات التخوين، بالكاد يُسمع صوت يسأل عن المعتقلين والمعتقلات أو يحاول مناقشة مصيرهم. وهذا الصمت يبدو منسجماً مع حال الخوف السائدة، فحملة الاعتقالات غير مسبوقة لجهة كثافتها وشموليتها، وتصرفات ولي العهد أوضحت أنه يضع معارضيه في السجن، والسجن ليس فندق خمس نجوم كما كان “الريتز كارلتون”.
ويواجه المعتقلون والمعتقلات حملة إعلامية شرسة واتهامات بالخيانة.
من بين المعتقلين الناشطات البارزات في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول وعزيزة اليوسف وإيمان النفجان، والمحامي إبراهيم المديميغ الذي كان محامي لجين الهذلول حين تم اعتقاله، الناشط محمد الربيعة، ورجل الأعمال عبد العزيز المشعل. جميعهم يواجهون اتهامات مماثلة لتلك المفروضة ضد عدد من النشطاء المسجونين الذين يقضون حالياً فترات سجن طويلة، بمن فيهم وليد أبو الخير وفاضل المناسف، ونذير الماجد. بعد اعتقالهم مباشرة، اتهمتهم وسائل الإعلام المحلية علناً بالخيانة.
وقد نادت النفجان والهذلول علناً لسنوات بإنهاء التمييز ضد المرأة، ووقعتا عريضة في أيلول/ سبتمبر 2016 ضمت أكثر من 14 ألف توقيع، تطالب الملك سلمان بإلغاء نظام ولاية الرجل على المرأة، فبموجب هذا النظام السعودي ، لا يُسمح للنساء بالسفر أو الزواج أو استصدار جوازات السفر من دون إذن ولي أمر ذكر، يمكن أن يكون الأب أو الزوج أو الأخ أو حتى الابن.
وللسلطات السعودية تاريخ طويل في قمع النشطاء والمعارضين لقيامهم بأنشطة سلمية. أدانت المحاكم السعودية 30 ناشطاً ومعارضاً بارزاً على الأقل منذ 2011. واجه كثيرون منهم أحكاماً بالسجن تصل إلى 10 أو 15 سنة بتهم تهدف إلى تجريم المعارضة السلمية، مثل “الخروج على ولي الأمر” و”جلب الفتن” و”تحريض الرأي العام” و”إنشاء جمعية غير مرخص لها”، وأحكام غامضة من “قانون مكافحة جرائم المعلوماتية” لعام 2007.
في حزيران الماضي، اعتقلت السلطات السعودية الكاتبة والناشطة نوف عبد العزيز، التي عبّرت علناً عن تضامنها مع 3 من ناشطات حقوق المرأة اللواتي اعتقلن في أيار، إلى جانب 14 ناشطاً ومناصراً آخرين على الأقل. ولاحقاً اعتقلت مياء الزهراني صديقة عبد العزيز، بعد أن نشرت رسالة طلبت منها عبد العزيز أن تعلن عنها في حال اعتقالها. في الرسالة الموجهة إلى أبناء وطنها السعوديين، أوضحت عبد العزيز من تكون، مؤكدة أنها لم ترتكب أي جريمة: “أنا لست بمحرضة، ولا مخربة، ولا إرهابية، ولا مجرمة ولا خائنة… لم أكن سوى مواطنة صالحة أحب بلدي وأتمنى له الأفضل”.
أهالي المعتقلين يترقبون
التواصل مع عائلات الموقوفين والموقوفات يبدو معقداً، إذ يؤكد حقوقيون أن أهالي المعتقلين والمعتقلات ممنوعون من التواصل مع الإعلام أو المنظمات الدولية.
أحد المقربين من المعتقلات، وفي رسالة إلكترونية لـ”درج”، أكد أنه يسمح بالتواصل فقط عبر الهاتف وبحذر كون الاتصالات مراقبة، ومن دون مقابلات. ويضيف، “بالإمكان القول إن لا أحد يعرف التهم خارج القضبان، ولا أحد يعرف هل تمّ توجيه تهم للمعتقلين أم لا. ومن المستبعد أن يكون هناك محامٍ يتولى الدفاع…. المعتقلون لا يتحدثون عن أوضاعهم أبداً”، لذلك يصعب على الأهل معرفة أحوالهم أو مصائرهم.
لكن يتحدث أقرباء للمعتقلين عن شعور عميق بالإجحاف، ويؤكدون أن هناك تعاطفاً مع الناشطات المعتقلات، خصوصاً أنهن ممن عمل لقرار السماح للمرأة بالقيادة لذلك فإن قرار حبسهن متناقض مع شعارات التغيير المرفوعة. هناك ارتباك اجتماعي وعائلي يواجهه أهل الموقوفين لجهة علاقاتهم الاجتماعية وأعمالهم.
لا أفق واضح
يكرر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أنه يريد إعادة السعودية للاعتدال، ومحاربة التشدد إلا أن الواقع يقول إن عدداً كبيراً من المعتقلين والمعتقلات هم من الشخصيات البارزة في المجال الحقوقي على رغم أن النظام السعودي حاول تمويه جهود الحقوقيين، من خلال اعتقال رجال دين آخرهم سفر الحوالي الذي اعتقل هو وأبناؤه الثلاثة مطلع الشهر، فيتم دائماً ربط الاعتقال بأنه للقضاء على خلايا متشددة وإرهابية.
وما زال الضغط على النشطاء والتضييق عليهم متواصلاً حتى اللحظة، ونادراً ما تسمح لهم بالزيارة ولم يكشف عن أماكن وجودهم، إضافة إلى استحالة توكيل محامين عنهم…
لا أفق واضحاً إلى أين ستتجه قضية الاعتقالات في السعودية ولا حتى مصير المعتقلات والمعتقلين، لكن ما يبدو جلياً أن نهج ولي العهد السعودي يواصل الاعتماد على مبدأ القوة، وهو أمر لا يبدو أنه سيتبدل قريباً…