اتخذ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” موقفا أكثر تشددا تجاه السعودية مما فعل سلفه. وفي حين قام الرئيس السابق “دونالد ترامب” بتدليل الحاكم الفعلي وولي عهد المملكة “محمد بن سلمان”، فقد أفرج “بايدن” عن معلومات دامغة حول تورط “بن سلمان” في مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، وأقر قائمة طويلة من المسؤولين السعوديين الذين يُعتقد أنهم متورطون في مؤامرة القتل ومضايقات أخرى للمعارضين، وخفّض المساعدات العسكرية للمملكة. لكن هذا التقويم للعلاقات مع السعودية لم يكن كافيا للعديد من منتقدي “بن سلمان”.

وانتقد المدافعون عن حقوق الإنسان والصحفيون وحتى بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين “بايدن” لعدم إصدار عقوبات بحق “بن سلمان” مباشرة. وتستند مثل هذه الحجج إلى حد كبير إلى الحاجة إلى معاقبة منتهكي حقوق الإنسان، مع غضب الصحفيين بشكل خاص لأن “بايدن” لم يعاقب قاتل صحفي مثلهم.

وأشار بعض النقاد إلى أن “بايدن” قادر على إجبار الملك “سلمان” وبقية العائلة المالكة السعودية على استبدال “بن سلمان” بقائد جديد. وانتقد “نيكولاس كريستوف”، كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، “بايدن” لعدم تصريحه أن “المملكة ستكون في وضع أفضل بوجود ولي عهد جديد”. وقال “بروس ريدل”، الزميل في معهد “بروكينجز”، وهو مراقب مخضرم للشأن السعودي قضى عقودا في مناصب حكومية أمريكية تتعامل مع الشرق الأوسط: “إذا كان هدف الولايات المتحدة هو سعودية معتدلة ومستقرة داخليا وليست مصدرا للاضطراب في المنطقة، إذن فلا مكان لبن سلمان في مستقبل السعودية”.

لكن ما يفوت هؤلاء النقاد هو أن “بن سلمان” أصبح الآن ركيزة راسخة وثابتة في هيكل صنع القرار السعودي. وبدعم من والده الملك “سلمان”، عزز “بن سلمان” سلطته بلا رحمة، تاركا الولايات المتحدة من بين آخر الفاعلين الذين يستطيعون وضع ضوابط وقيود على سلوكه وسلطته، إن لم تكن الوحيدة.

ولن تنجح محاولة الإطاحة بـ”بن سلمان” من السلطة، بل ستقضي على قدرة واشنطن على كبح سلوكه في الخارج أو في الداخل في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى تعاون السعودية في القضايا الأمنية الملحة في كل من اليمن والمنطقة. ولذلك، يتعين على واشنطن التعامل مع “بن سلمان”.

 

من التوافق إلى الوحدة

ولعقود من الزمان، حكمت السعودية مجموعة من الأمراء الذين شغلوا مناصب حكومية مهمة ومكانة عليا داخل الأسرة الحاكمة. وتم اتخاذ القرارات المهمة من خلال كبار الأمراء، الذين كان لدى العديد منهم حق النقض. نتيجة لذلك، عكست السياسات السعودية، الخارجية والداخلية، مواقف إجماع. وكان التغيير نادرا وتدريجيا. وبالرغم أن العائلة المالكة فشلت في حل العديد من المشاكل أو اغتنام العديد من الفرص، لكنها نجحت أيضا في تجنب اتخاذ قرارات سيئة حقا.

وساعد هذا النهج المحافظ المملكة بشكل جيد، حيث مكنها من تجاوز موجات عاتية في المنطقة بدءا من القومية العربية الناصرية في الخمسينات والستينات، والثورة الإيرانية عام 1979، وغزو “صدام حسين” للكويت عام 1991، ومؤخرا الربيع العربي عام 2011.

وعندما كبر الأمراء الكبار وبدأوا في الوفاة، بدا أن أبناءهم بدأوا في إعادة تشكيل نظام الحكم فيما بينهم. وخلف الأبناء الآباء في مناصب مهمة مثل وزير الخارجية ووزير الداخلية وقائد الحرس الوطني. وكان الأبناء الآخرون، الذين عملوا نواب وزراء لآبائهم، على وشك أن يرثوا مناصب أخرى. وقرب نهاية حكم الملك “عبد الله” ابتعد قليلا عن هذا النظام، وعين “سلمان” وزيرا للدفاع بدلا من نجل الوزير المتوفى حديثا. لكن بعد ذلك في عام 2015، تولى الملك “سلمان” العرش وبدأ في تفكيك هذا النظام.

وبدلا من حشد الإجماع، ركز الملك “سلمان” السلطة في يد ابنه “محمد”، وهمش الأمراء المتبقين من جيله وأولئك في الجيل التالي الذين يمكن أن ينافسوا ابنه المفضل. وجعل “محمد”، الذي كان نائبه في وزارة الدفاع، وزيرا. وأطاح الملك بأخيه غير الشقيق، الأمير “مقرن”، من منصب ولي العهد، ثم في عام 2017، حل “محمد بن سلمان” محل ولي العهد آنذاك الأمير “محمد بن نايف”.

كما عين “سلمان” نجله “محمد” رئيسا للمجلس المسؤول عن وضع السياسة الاقتصادية والاجتماعية والمجلس الذي يشرف على شركة “أرامكو”، وبذلك عزز “بن سلمان” سيطرته على أهم المؤسسات الاقتصادية في الدولة. وهو الآن صاحب سلطة منقطعة النظير في الداخل، مقيدا فقط بملك مسن وضعيف بشكل متزايد.

وأدت هذه التغييرات العميقة في هيكل السلطة داخل الأسرة الحاكمة السعودية إلى إزالة القيود التي جعلت السياسة السعودية في السابق تتسم بالحذر وبعيدة عن المغامرة ويمكن التنبؤ بها. وسمح “بن سلمان” للمرأة بقيادة السيارة، وقيّد سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرض ضرائب واسعة على السعوديين.

وكان السعوديون ذوو العقلية الإصلاحية يحثون على هذه السياسات لعقود من الزمن، لكن النهج المحافظ في عملية صنع القرار أحبط التغيير. وكان لدى “بن سلمان” فقط الإرادة والقوة لإجراء هذه الإصلاحات.

لكن جمع ولي العهد بين القوة والإرادة أدى أيضا إلى قرارات متهورة وذات نتائج عكسية. وفي عام 2017، اعتقل “بن سلمان” أكثر من 300 من كبار رجال الأعمال والأمراء في البلاد، وحول فندق “ريتز كارلتون” في الرياض إلى أكثر السجون فخامة في العالم، وزعزع ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء.

وفي ذلك العام أيضا، اختطف “بن سلمان” رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري”، الذي كان يزور الرياض، وأجبره على الاستقالة من منصبه. وكان “بن سلمان” يأمل في حل أزمة سياسية في بيروت بشكل من شأنه أن يلحق الضرر بـ”حزب الله”، حليف إيران، لكن انتهى به الأمر إلى تعزيز الموقف السياسي للحزب بدلا من ذلك.

وفي العام نفسه، انضم “بن سلمان” إلى البحرين ومصر والإمارات في مقاطعة قطر التي تضم أكبر قاعدة جوية أمريكية في الشرق الأوسط. وانتهت تلك المقاطعة في ديسمبر/كانون الأول 2020، بعد انقسام شركاء الولايات المتحدة الخليجيين فقط. وواصل “بن سلمان” حربا غير مجدية ومدمرة في اليمن، واتخذ إجراءات صارمة ضد المعارضين، أبرزها الأمر بقتل “خاشقجي” عام 2018.

وبالرغم من هذه الأحداث، لا يوجد ما يشير إلى أن أعضاء آخرين من الأسرة الحاكمة متحالفون ضد “بن سلمان”. ويُقال إن الكثير من الأمراء الأكبر سنا غير راضين عن ابن عمهم الأصغر الذي لا يرحم. لكن ليس من الواضح ما إذا كانت لديهم الوسائل أو الجرأة لخوض مواجهة مباشرة مع الرجل الذي يسيطر على كل منافذ القوة والمال في المملكة.

وأدت الصراعات السابقة على السلطة داخل الأسرة الحاكمة إلى انشقاقات علنيية، في شكل تشكيلات عسكرية يقودها أمراء متنافسون يواجهون بعضهم البعض، وأمراء بارزون ينسحبون من مواقعهم الحكومية الرسمية مع الاحتفاظ بألقابهم الرسمية ونفوذهم.

ولا توجد مثل هذه المكائد الآن، علنا على الأقل. علاوة على ذلك، عمل “بن سلمان” على تنمية ولاء الأفراد الأصغر سنا في الأسرة، حيث قام بترقية الأمراء من الجيل الذي يليه إلى مناصب في المحفاظات وأجهزة الدولة. وإذا تحرك أبناء عمومة “بن سلمان” الأكبر سنا ضده، فليس هناك ما يضمن أن بقية أفراد الأسرة سينضمون لهم.

 

آخر قيود السلطة

وبعد أن عزز سيطرته شبه الكاملة على الحكومة السعودية وأبقى المعارضة العائلية في مأزق، يواجه “بن سلمان” تدقيقا عمليا واحدا فقط قد يقيد حريته في العمل، ويأتي من الولايات المتحدة. وتعتمد خطط “بن سلمان” الطموحة للتغيير الاقتصادي على الاستثمار الدولي، ويلعب المستثمرون الأمريكيون دورا رائدا. ولا يمكن أن يكون “بن سلمان” لاعبا في النظام المالي العالمي إذا وقفت واشنطن ضده.

ولا تزال الولايات المتحدة أهم شريك دولي للمملكة والضمانة الأمنية النهائية لها. ولا يوجد حاكم سعودي يريد تعريض تلك العلاقة للخطر.

وفضلت إدارة “ترامب” حماية ولي العهد، وعدم التدخل في سياسة الأسرة الحاكمة السعودية. وكان لـ”بن سلمان” علاقة مباشرة مع صهر الرئيس الأمريكي “جاريد كوشنر”، ما سمح له بتجاوز القنوات الدبلوماسية العادية والوصول إلى البيت الأبيض بسهولة.

ومنحت الإدارة السابقة “بن سلمان” لقاء علنيا مع الرئيس قبل “محمد بن نايف”، الذي كان ولي عهد السعودية في ذلك الوقت. ثم اتخذ “ترامب” قرارا غير معتاد بجعل الرياض أول وجهة خارجية له في منصبه.

وأصبح “بن سلمان” وليا للعهد بعد بضعة أشهر فقط من تلك الزيارة. وتسبب الضوء الأخضر من واشنطن في تضليل “بن سلمان” ودفعه إلى الاعتقاد بأنه يستطيع التصرف دون عقاب على المسرح العالمي، ولا شك أن ذلك ساهم في بعض أخطائه الفادحة.

ومن المفهوم أن إدارة “بايدن” جاءت إلى السلطة بوعود تتضمن إعادة ضبط العلاقات مع السعودية وتقييد سلوك “بن سلمان”. وقد صاحب اتصال “بايدن” الأول مع الرياض نغمة إعادة التقييم هذه؛ حيث تحدث الرئيس الأمريكي مع الملك “سلمان”، وليس مع ولي العهد، الذي تلقى، بصفته وزير الدفاع السعودي، مكالمة من وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”.

ولم تكن نائبة الرئيس “كامالا هاريس”، وهو المنصب المكافئ لـ”بن سلمان” كولي للعهد، في تلك المكالمة. كما أنهى “بايدن” التعاون مع الحملة العسكرية السعودية في اليمن، وعلق شحنات الأسلحة إلى المملكة، وحظر عددا من السعوديين، الذين يُعتقد أنهم هددوا المعارضين السعوديين، من السفر إلى الولايات المتحدة.

لكن إدارة “بايدن” لم تصل إلى حد معاقبة “بن سلمان” شخصيا لدوره في مقتل “خاشقجي”. ورأت أنه من أجل أن يكون لها تأثير على صنع القرار السعودي، فلا يمكنها جعل ولي العهد شخصا غير مرغوب فيه، ناهيك عن إجبار العائلة المالكة السعودية على استبداله.

وسيكون أي جهد للإطاحة بـ”بن سلمان” من موقعه المركزي في النظام السعودي الحالي بمثابة شيء قريب جدا من محاولة تغيير النظام، وهو الأمر الذي لم تحقق منه الولايات المتحدة مكاسب في الشرق الأوسط. وآخر شيء يجب أن تفعله إدارة “بايدن” هو التورط في هذا النوع من النشاط.

ولن تكون فكرة الإطاحة بـ”بن سلمان” مجرد أمنيات بل تفكير خطير، وهو تكرار للغطرسة التي أدت بالولايات المتحدة إلى الغرق في وحل العراق وليبيا وأماكن أخرى. وقد اختارت إدارة “بايدن” بالفعل الطريق الأكثر حكمة، مهما كان مقيتا للبعض. ويتمثل التحدي الآن في إيصال ما تريد وما لن تتسامح فيه مع “بن سلمان” بوضوح.

وكقناة اتصال بولي العهد، يجب على “بايدن” تعيين سفير يمكنه نقل ما تنتظره الولايات المتحدة من السعودية، وهو التعاون على إنهاء الحرب في اليمن، ووضع حد للاعتداءات والمضايقات التي يتعرض لها المعارضون السعوديون في الخارج، والمساعدة في تقوية الحكومة العراقية لمنح بغداد خيارات بعيدا عن إيران للحصول على الدعم الدولي، والتشاور الكامل مع واشنطن لتلافي تكرار مغامرات مزعزعة للاستقرار مثل مقاطعة قطر واختطاف رئيس الوزراء اللبناني.

وعلى سبيل الإغراء، يمكن للولايات المتحدة أن تعرض على السعودية المساعدة في تقليل الاعتماد على عائدات النفط، ولكن فقط إذا وافق “بن سلمان” على احترام سيادة القانون في الداخل.

وقد يوفر عزل “بن سلمان” بعض الرضا العاطفي قصير المدى، ولكن بالنسبة لإدارة تتطلع إلى احتواء أزمات الشرق الأوسط وتجنب صراعات جديدة، فإن التعامل مع السعودية أمر ضروري. ويعني هذا التعامل مع “بن سلمان”.