بقلم/ حسين إبراهيم – كاتب صحفي لبناني
لم يَعُد الملك سلمان، عملياً، قادراً على أداء مهامّ كثيرة. صحيح أن أخبار صحّته قليلة، وعُرضة للتحريف، سواءً من قِبَل مُحبّيه أو كارهيه، لكن ظهوره العلني صار نادراً، وإذا فعل، فللصورة فقط، خلال استقبال ما، أو اجتماع ما، عن بُعد، لمجلس الوزراء، أو على الأكثر لتوقيع وثائق، ثمّ ينسحب خارج المشهد كلّياً.
هكذا كانت الحال خلال الزيارة الأخيرة لسلطان عمان، هيثم بن طارق، الذي شارك الملكُ في استقباله، ثمّ اختفى طوال وقائع الزيارة. منذ لحظة تولّيه ولاية العهد في حزيران 2017، أصبح محمد بن سلمان حاكماً فعلياً للمملكة.
وسواءً كان ذلك برضى الوالد البالغ من العمر حالياً 86 عاماً، أم نتيجة عجزه المتدرّج، قام ابنه تدريجياً بالإمساك بكلّ أدوات الحُكم، وأبعد كلّ منافسيه في الداخل، وبدأ جهداً للحصول على تزكية إدارة جو بايدن، بعد فقدانه الدعم الأميركي المطلق بخسارة دونالد ترامب الانتخابات.
وهي النقطة الوحيدة الضرورية لتولّيه العرش، والتي لم يُحقّق تقدُّماً حاسماً فيها بعد. ولذا، عمد أخيراً إلى تمويل حملة كبرى عبر جماعات الضغط في واشنطن لتحسين صورته الملطّخة هناك.
آخر الأخبار الرسمية حول صحّة الملك سلمان هي خضوعه لعملية جراحية بالمنظار لاستئصال المرارة في مستشفى الملك فيصل في الرياض، في نهاية تموز من العام 2020، ثمّ تلقّيه الجرعة الأولى من لقاح “كورونا” في كانون الثاني الماضي.
ويفيد موقع “تاكتيكال ريبورت” بأن سلمان أصرّ على المشاركة في أداء صلاة عيد الفطر في أيار الفائت في مدينة “نيوم”، على رغم تعليمات فريقه الطبّي ووليّ العهد القاضية بتنفيذ إجراءات تحدّ من اتّصالاته المباشرة مع أفراد أسرة آل سعود والمسؤولين الآخرين، بسبب جائحة “كورونا”.
لكن، ما دام الملك قد اختار خَلَفه وأصبح شبه عاجز، فلماذا لا ينظّم هو وابنه الذي اختاره خَلَفاً له، عملية الوراثة في حياة الأوّل، بدل المخاطرة بمرحلة انتقالية تَعقُب وفاته، إلى أن تجتمع هيئة البيعة وتبايع ملكاً جديداً،حتى لو كانت أياماً أو ساعات؟
هل بن سلمان مطمئنّ إلى انعدام احتمال قيام قوّة عسكرية موالية لأحد منافسيه من أمثال محمد بن نايف أو أحمد بن عبد العزيز، بدعم من أفراد آخرين في الأسرة مِمّن يعارضون وليّ العهد، بتنفيذ انقلاب عليه خلال تلك المرحلة الانتقالية؟
أم أنه يخشى أن يتّهمه المناوئون له في الداخل والخارج بتنفيذ انقلاب على أبيه، ممّا سيعطي هؤلاء أسباباً إضافية للطعن في شرعيّته؟
مهما كانت الأسباب الداخلية لعدم قطع الأمتار الأخيرة في مسيرة الخلافة، فإن غياب الرعاية الأميركية، الضرورية لكلّ عملية انتقالية في الخليج، وأماكن كثيرة أخرى، يعني أن وراثة عرش سلمان غير ناضجة تماماً بعد، وإن كان الأميركيون قد أعطوا مؤشّرات علنية إلى أنهم سيسلّمون بتولّي بن سلمان المُلك، وأقاموا علاقات مع نظامه لا تشمل حتى هذه اللحظة، علاقة شخصية أو اتصالات مباشرة له مع الرئيس جو بايدن.
كما لم يحدّدوا على الأخصّ ما إذا كان بايدن سيبقى على قراره هذا، أم أنه سيتراجع عنه حين يصبح وليُّ العهد ملكاً. وعلى رغم أن بايدن نفسه أقرّ بأن ابن سلمان هو القائم بأعمال الملك، في مقابلة مع محطة “إي بي سي نيوز” الأميركية في آذار الماضي، غير أنه لم يأتِ على ذكر مستقبل علاقته الشخصية به في حال وفاة الملك.
وحين سئل عن استثناء وليّ العهد من العقوبات التي فُرضت على قتَلة جمال خاشقجي، قال: “لقد حاسبنا كلّ أعضاء تلك المنظمة (فرقة النمر)، باستثناء ولي العهد، لأننا لم نصل أبداً، على حدّ علمي، عندما يكون لدينا تحالف مع بلد ما، إلى معاقبة القائم بأعمال رئيس ذلك البلد، ونبذه”.
لا يتعلّق الأمر فقط بالعلاقة الشخصية بين بايدن وابن سلمان، بل يتعدّاه إلى مجمل العلاقات السعودية – الأميركية التي صارت في السنوات العشرين الأخيرة، تنطوي على تعقيدات كثيرة، ولعلّها أضحت من أكثر مواضيع السياسة الخارجية إثارة للجدل في أميركا، حيث تجري حولها جلسات استماع دائمة في الكونغرس.
هكذا، ظلّت السعودية حليفاً بمعنًى ما، بفضل دورها الجيوسياسي في الشرق الأوسط وقدرتها على التحكّم بإمدادات النفط وأسعاره. ولكنها أصبحت “عدوّاً” بمعنى آخر: لقد باتت مكروهة.
قبل ذلك، أظهرت واشنطن، بوضوح، أنها معنيّة بتغيير “الطبيعة المتزمّتة” للمجتمع السعودي. وهذا ما يبدو أن ابن سلمان التقطه سريعاً، فأطلق عملية تحويل جذرية لمجتمعه، بمساعدة مستشارين مِن مِثل تركي آل الشيخ، الذي ينتمي إلى العائلة التي تُخرّج المفتين في المملكة، والمتحدّرة من محمد بن عبد الوهاب.
رسالة بن سلمان إلى الأميركيين هي أن الوهابية نفسها قابلة للتغيير. قد يكون توكيل سليل الشيخ ابن عبد الوهاب بتنظيم حفلات الغناء و”الفرفشة” والرقص من خلال رئاسته “هيئة الترفيه”، محض صدفة، لكن رمزيته مغرية.
وبن سلمان كان قد بدأ تدريجياً هذه التغييرات، بإلغائه “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ثمّ سماحه للمرأة بقيادة السيارة، والخروج بلا محرم. لكن تلك الخطوات “التغييرية” على الصعيد الاجتماعي، ترافقت مع حدّ أقصى من القمع على المستوى السياسي، طاول أقرب حلفاء واشنطن من داخل الأسرة الحاكمة.
وكان الغرض منه إبعاد المنافسين، مما عزّز اتجاهاً في الولايات المتحدة لتقديم نوع من الرعاية لمعارضة سعودية صارت تضمّ أفراداً كباراً من الأسرة ومنشقّين آخرين، بالتوازي مع علاقتها الثابتة مع الحكم، والتي تجاوزت عواصف 11″ أيلول”، و”الربيع العربي”، ولكنها اهتزّت فعلياً مع اهتزاز مؤسّسة الحكم في السعودية.
عودة السياسة التقليدية الأميركية مع بايدن، أدّت إلى مأزق حقيقي في شأن كيفية التعامل مع السعودية، خصوصاً حين أمر بنزع السرّية عن تقرير الاستخبارات الأميركية، الذي يتّهم ابن سلمان بجريمة قتل خاشقجي.
قد يكون بايدن وضَع العلاقات مع وليّ العهد على مسار ليس سهلاً التراجُع عنه؛ فكيف سيردّ على المتربّصين به إذا اتّهموه بالتعامل مع “قاتل”، في حال قرّر التعامل المباشر مع ابن سلمان بعد تولّيه المُلك؟
وفي المقابل، هل يمكن لرئيس أميركي أن يقاطع ملكاً سعودياً؟ لا سابقة لذلك، على حدّ قول بايدن نفسه. الآن في أميركا، يمكن لأقلّ عضو شأناً في الكونغرس، أن يسائل بشكل ما الإدارة عن العلاقة مع السعودية، وأن يطلق ما يشاء من النعوت على حكّام المملكة، وأن يعاير السعوديين بأنهم لولا الحماية الأميركية “لكانوا الآن يتحدّثون الفارسية”، مثلما فعل السيناتور ليندسي غراهام.
عملية انتقال السلطة في السعودية لن تكون سهلة، سواء حصلت غداً أو انتظرت وفاة الملك. وفي الغالب، ستترك آثاراً عميقة وطويلة المدى على الأسرة، مع الانتقال رسمياً إلى جيل الأحفاد.
السعودية لن تعود كما كانت، لا في دورها، ولا في استقرارها الذي لطالما ارتبط باستقرار الحُكم، لاسيما وأن القدرة على شراء الصمت بالمال تراجعت، وأصبح السعوديون يدفعون ضرائب وأسعاراً مرتفعة للخدمات. التغيير بدأ فعلياً. ما هو غير معروف، المدى الذي سيصل إليه، وبأيّ قدر من الاضطراب.