في عام 1977 دارت محادثات “ساخنة” بين بريطانيا والسعودية حول القضية الفلسطينية ومسؤولية البريطانيين عن مأساة الشعب الفلسطيني، ورفضت الرياض خلالها مقترحا بإقامة دولة دينية في مدينة القدس المحتلة على غرار الفاتيكان، بحسب وثائق بريطانية حصل عليها الصحفي المخضرم عامر سلطان، بموجب قانون حرية المعلومات، ونشرتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

بعد 4 سنوات من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين إسرائيل ودول عربية، في مقدمتها مصر وسوريا، أُرسل وزير الخارجية البريطاني ديفيد أوين إلى السعودية في مايو/ أيار 1977، في أثناء نقاشات دولية بشأن عقد مؤتمر للسلام بالشرق الأوسط.

وكانت إدارة أمريكية جديدة بقيادة جيمي كارتر تعمل على إيجاد صيغة لجمع أطراف الصراع للتفاوض.

لكن أوين أُرسل إلى السعودية لبحث أزمة اقتصادية يواجهها العالم، وكان أبرز تجلياتها ارتفاع معدلات التضخم وأسعار النفط.

 

أخطاء الآباء

في القصر الملكي بالرياض، أبلغ عاهل السعودية الملك خالد بن عبدالعزيز وولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبدالعزيز، الوزير البريطاني بضرورة النظر بإنصاف إلى الصراع العربي الإسرائيلي.

لكن أوين أجاب بأنه “لا يمكن أن يتحمل الأبناء للأبد المسؤولية عن أخطاء الآباء”، فرد عليه الملك خالد: “لم أحمّلك مسؤولية أخطاء الماضي، غير أن ما آمله هو تصحيحها”.

وهذا السجال يشير إلى مسؤولية بريطانيا التاريخية عن المأساة الفلسطينية بوعد وزير خارجيتها الراحل أرثر بلفور عام 1917 للحركة الصهيونية بإقامة وطن لليهود بفلسطين.

وكان الحوار بين أوين والملك خالد “ساخنا”، وقال فيه الأخير إنه “ليس دبلوماسيا ويتحدث بما يدور في ذهنه بصراحة”.

وحذر من أنه “لا يمكن أن ينجو زعيم عربي يرضخ لحل لا يأخذ (حقوق) الفلسطينيين في الاعتبار”، مشددا على “حل عادل” للقضية الفلسطينية يحسم وضع مدينة القدس المحتلة.

 

مطلوب عدالة

أوين وصف المشكلة الفلسطينية، حسب محضر الاجتماع، بأنها “بلا شك الأكبر في الشرق الأوسط”، معربا عن أمله بنجاح مساعي الرئيس كارتر في علاجها.

لكن الملك خالد رد بأن “المشكلة فعلا سهلة للغاية”، والمطلوب هو “العدالة والإنصاف فقط.. كل ما هو مطلوب قرار منصف من جانب القوى التي يمكنها التأثير في الأمور”.

ورد أوين بأنه “لابد من تسوية تتضمن حلا وسطا”، و”درجة الاستعداد التي أبداها الزعماء العرب، وفي المقدمة جلالة الملك خالد، للوصول إلى حل في الوقت الحالي، مشجعة”.

 

حرب يونيو 1967

ومشيرا إلى حرب 5 يونيو/ حزيران 1967، قال الملك خالد: “أخذ الإسرائيليون فلسطين كلها وأيضا أجزاء من مصر وسوريا، ويجب أن ينسحبوا من الأراضي التي احتلوها بشكل غير قانوني”.

ووافق أوين على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة. وهذا يؤكد، وفق سلطان، أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الذي صاغته بريطانيا في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، قُصد به الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة وليس جزءا منها.

ورد أوين على الملك قائلا إنه “يجب أن يُعطى الإسرائيليون أسبابا قوية للإيمان بأنهم سوف يتمتعون بالأمن”.

وبنبرة حاسمة، أجابه الملك: “ليس لدى الإسرائيليين ما يخشونه، بل العرب هم الذين لديهم سبب للخوف من العدوان (الإسرائيلي)”.

وشارحا وجهة نظر الملك، تدخل وزير الخارجية السعودي، آنذاك، الأمير سعود الفيصل بقوله: يجب “التمييز بين تهديد محتمل، وتهديد واقع”، واصفا “المخاوف” الإسرائيلية بأنها “وهمية مُتخيلة”.

وهنا قال أوين إن هناك “تطورا هائلا في وجهات نظر الزعماء الغربيين”، والدليل هو أن “الأهمية المركزية للقضية الفلسطينية الآن مقبولة عموما”، ووصف هذا القبول بأنه “تغير ملحوظ للغاية عن الاتجاهات حتى التي كانت قبل خمس سنوات”.

 

تحذير سعودي

وفي ختام النقاش، حذر الملك خالد البريطانيين من عواقب استمرار المشكلة لمدة 30 عاما على المصالح العربية والغربية معا، وحمَّل بريطانيا والغرب المسؤولية.

وأوضح أن “المشكلة الفلسطينية جلبت الروس إلى الشرق الأوسط، حتى رغم أن الاتحاد السوفيتي كان أول مَن اعترف بإسرائيل في 1948، وحتى رغم أن معظم الإسرائيليين المتعلمين والقياديين جاؤوا في الأساس من روسيا.. الروس تمكنوا من استغلال القضية لخدمة أغراضهم الخاصة”.

وآنذاك، كانت الدول الغربية في صراع حاد مع النفوذ الشيوعي السوفيتي في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية.

وقال الملك خالد إن القضية الفلسطينية “استغلها الروس، وجلبت الشيوعيين إلى الشرق الأوسط وإلى إفريقيا الآن”.

 

عدم تدخل السعودية

وخلال زيارته للمملكة، التقى أوين في اجتماع منفصل مع ولي العهد السعودي.

وكشف الأمير فهد للوزير البريطاني عن سبب عدم تدخل السعودية المباشر ضد إسرائيل في الصراع بين 1954 و1967، في إشارة إلى الصراع الشرس بين مصر بقيادة جمال عبدالناصر وتل أبيب.

وقال إن “السعودية تجنبت المواجهة المباشرة مع إسرائيل. فالتدخل السعودي الأكبر كان فقط سيعقد الوضع ويزيد من تأجيل الوصول إلى حل”.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعترف بحقوق الفلسطينيين، قال الأمير فهد: “لا أحد الآن يفكر في محو إسرائيل. إسرائيل دولة موجودة في منطقة الشرق الأوسط”.

وتحدث عمَن وصفهم بـ”المتطرفين والمتعصبين الإسرائيليين” الذين “ما زالوا يعتقدون بفكرة الانتصار النهائي”.

وأكد أن هذا الانتصار لن يحدث لأن “هناك الآن 100 مليون عربي لديهم الموارد البشرية في صورة قوات مسلحة ولديهم موارد مادية وطاقة ومستويات مرتفعة من المهارة والتعليم والمساعدة من الخارج”.

وخلص إلى أنه “من المستحيل أن تحقق إسرائيل انتصارا نهائيا.. والزعماء العرب لهذا السبب مستعدون للعمل من أجل تطوير العلاقات مع إسرائيل، كي يمكن أن تكون هناك نهاية لحالة الحرب”، وفق محصر الاجتماع.

وأعرب الأمير فهد عن قناعته بأن “دور ومصالح بريطانيا هي نفس دور ومصالح السعودية”.

وتابع أنه “لا يطلب من المملكة المتحدة أن تقف بجانب العرب ضد إسرائيل”، لكنه “لا يتوقع أن تقف المملكة مع الإسرائيليين ضد العرب”.

 

النفوذ السوفيتي

وعبَّر أوين عن اقتناعه بأن عدم تسوية الصراع سيعني أن “النفوذ السوفيتي (بالشرق الأوسط) سيزيد بسرعة، كما ستختفي المجتمعات القائمة على القيم التي تتمسك بها السعودية والغرب”.

وأشاد أوين بالرئيس المصري أنور السادات الذي عبَّر عن اقتناعه بأنه “مستعد للمخاطرة في مواجهة الرأي العام في بلده لمصلحة تحقيق تسوية (مع إسرائيل)”.

وهنا سأل الأمير فهد الوزير البريطاني عما يمكن أن تفعله المملكة المتحدة، فرد أوين بأنه حاول الإنصات إلى أكبر عدد ممكن من الزعماء العرب، وسوف يذهب إلى إسرائيل في يوليو/تموز.

لكنه شدد على أن “الأمريكيين هم القوة الوحيدة التي يمكنها أن تضغط على إسرائيل لإنجاز التسويات الضرورية لتحقيق السلام”.

 

حكومة دينية

خلال اجتماعه مع الأمير فهد، أثار أوين مسألة القدس، التي تحتلها إسرائيل منذ 1967، والتي قال إنها “غالبا ما تُترك للنهاية” في الحديث عن مساعي التسوية.

ورد الأمير فهد واصفا المشكلة بأنها “بالغة الأهمية بالفعل”، وتتعلق بـ”مسألة العبادة الدينية للمسلمين والمسيحيين واليهود”.

ورأى أن الحل هو العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل حرب 1967، التي احتلت فيها إسرائيل شرق القدس، محذرا من أنه “إذا اتخذت إسرائيل موقفا لا يقبل بوضع ما قبل 1967، فإن المشكلة عندئذ ستصبح خطيرة للغاية”.

وسأل أوين الأمير فهد عما إذا كان يمكن أن يقبل العرب حكومة ذات سلطات دينية في القدس، أي دولة داخل الدولة، على غرار دولة الفاتيكان داخل إيطاليا.

ورد ولي العهد السعودي بأن تجربة الفاتيكان “ليست مشجعة”، وشدد على أنه “أيا كان الحل، فإنه يجب ضمان حرية العبادة”.