بعد أسابيع من الترقب والانتظار، تمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته إلى السعودية، 4 ديسمبر/ كانون الأول 2021، من إحداث خرق في جدار الأزمة اللبنانية السعودية.

واستغل ماكرون لقاءه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونجح في إقناعه بإجراء اتصال مشترك من هاتفه الشخصي، برئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، ما أدى إلى حصول محادثة قصيرة ومقتضبة بين الطرفين.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقعت أزمة بين الرياض وبيروت، عقب تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، أدلى بها قبل تعيينه بفترة قصيرة، لبرنامج شبابي يبث عبر منصة “يوتيوب”.

وتحدث قرداحي، عما أسماه “حربا عبثية” تشنها السعودية برفقة الإمارات على الشعب اليمني، ما اعتبرته المملكة إساءة مباشرة إليها، ولا سيما مع تمنع قرداحي عن الاعتذار وتمسكه بما قاله، والدعم الذي حظي به من “حزب الله” الذي تضعه الرياض على لوائح الإرهاب.

 

ضغوط كبيرة

وعقب الاتصال بين ابن سلمان وميقاتي، قالت وكالة الأنباء السعودية “واس” في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2021، إن “ميقاتي أبدى تقدير لبنان لما تقوم به السعودية وفرنسا من جهود كبيرة للوقوف إلى جانب الشعب اللبناني”.

كما أكد التزام الحكومة اللبنانية بـ”اتخاذ كل ما من شأنه تعزيز العلاقات مع المملكة ودول مجلس التعاون، ورفض كل ما من شأنه الإساءة إلى أمنها واستقرارها”.

وتأزمت العلاقات أكثر بعد تصريحات قرداحي، حين قامت السعودية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021، باستدعاء سفيرها من بيروت، وطردت السفير اللبناني في الرياض، في إجراء غير معهود في تاريخ العلاقات اللبنانية السعودية، التي لطالما كانت مميزة للغاية.

كما حذت كل من الإمارات والبحرين والكويت حذو السعودية.

فيما اتخذت المملكة عدة تدابير عقابية، من قبيل منع المستوردات اللبنانية من دخول أراضيها، ومنع “ترانزيت” البضائع عبر موانئها لصالح اللبنانيين.

وليحصل ماكرون على رد سعودي إيجابي لإنهاء هذه الأزمة، استبق زيارته إلى الرياض بممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة اللبنانية، والفرقاء السياسيين المشاركين فيها، لدفع قرداحي إلى الاستقالة، وهو ما حصل فعلا في 3 ديسمبر/كانون الأول 2021، حيث قدم الأخير استقالته “وفقا لطلب فرنسا”.

 

خطوة مهمة

وأرخى الاتصال الهاتفي بين ولي العهد السعودي وميقاتي نوعا من الإيجابية على الساحة السياسية اللبنانية، حيث نقلت قناة “إم تي في” المحلية أن ابن سلمان قال لميقاتي: “نريد أن نفتح صفحة جديدة”.

كما أشارت إلى أن الأجواء الإيجابية التي سادت بعد الاتصال “ستتوج بالمؤازرة الخليجية لخطوات حكومة ميقاتي الإصلاحية”.

أضف إلى ذلك، أن ماكرون أعلن في ختام زيارته إلى جدة في 4 ديسمبر/كانون الأول 2021، عن مبادرة فرنسية سعودية لمعالجة الأزمة بين الرياض وبيروت.

وقال في تصريحات إعلامية إنه قطع مع السعودية التزامات لدعم الإصلاحات في لبنان، وإخراجه من الأزمة الاقتصادية، والحفاظ على سيادته.

وأشار ماكرون إلى أن السعودية ولبنان “يريدان الانخراط بشكل كامل من أجل إعادة تواصل العلاقة بين البلدين في أعقاب الخلاف الدبلوماسي الأخير”.

من جهته، غرد ميقاتي عقب الاتصال قائلا إن “الاتصال مع ماكرون وابن سلمان خطوة مهمة لعودة العلاقات التاريخية بين لبنان والسعودية”، مؤكدا التزام حكومته بـ”الوفاء بالتزاماتها الإصلاحية”.

وفعلا، عقد ميقاتي في اليوم التالي اجتماعا موسعا في مقر رئاسة الحكومة، ضم معظم الوزراء وقادة أجهزة أمنية، لمتابعة الإجراءات الحدودية، وحل الإشكالات التي حصلت مع السعودية ودول الخليج، وتم اتخاذ بعض التدابير الهامة في هذا الشأن، على أن “تظهر آثارها في قادم الأيام”، حسبما صرح وزير الداخلية بسام مولوي.

وتعقيبا على ما جرى، كتب الصحفي عماد مرمل في مقال له بجريدة “الجمهورية” اللبنانية حمل عنوان “هل تنجح ديبلوماسية الهاتف؟ ميقاتي: ماكرون هبة السماء للبنان”، في 7 ديسمبر/كانون الأول 2021، أن “ميقاتي يعتبر الرئيس ماكرون هو هبة السماء للبنان، مشيدا بالاهتمام الذي يبديه حيال هذا البلد الذي أصبح قضيته اليومية”.

 

أول اعتراف

ولفت مرمل إلى أن الاتصال بين ميقاتي وابن سلمان “يعكس أول اعتراف سعودي بالحكومة ورئيسها منذ ولادتها القيصرية، بعدما كانت المملكة، من سفيرها في بيروت إلى قيادتها في الرياض، غير مهتمة لهذه الحكومة، لاعتقادها أن حزب الله يهيمن عليها”.

ونقل مرمل عن ميقاتي قوله: “لقد أعطونا مفتاحا (يقصد الفرنسيين)، وعلينا استخدامه بعناية لفتح الأبواب المغلقة، وبالتالي واجبنا أن نعمل جديا لنستحق هذه الفرصة عن جدارة، ونستفيد من زخم المبادرة الفرنسية السعودية المهمة”.

في حين كتب الباحث نبيل الخوري، في موقع “المدن” اللبناني، مقالا بعنوان “ماكرون في السعودية: إعادة الملف اللبناني إلى المربع الأول”، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2021، قال فيه: “تأسيسا على ما ورد في البيان الختامي للقمة السعودية الفرنسية بخصوص لبنان والأجواء الإيجابية السائدة، من غير المستبعد أن يتوقف التصعيد السعودي العقابي”.

وأضاف “قد يترجم ذلك بإعادة فتح الأسواق السعودية أمام الصادرات اللبنانية، وبعودة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان والسعودية، وبقية دول الخليج العربي التي تضامنت مع الرياض، إلى طبيعتها، أي إعادة إرسال السفراء الخليجيين إلى بيروت”.

واعتبر الخوري أنه “لا شيء يحول دون أن يستتبع هذا الاتصال الهاتفي بزيارة ميقاتي  شخصيا إلى السعودية ولقاء ولي العهد، وقد تنخرط الرياض، وعلى نطاق أوسع، إلى جانب فرنسا ودول أخرى في مسار الدعم الإنساني المباشر للشعب اللبناني، وربما للجيش اللبناني”.

من جانبه، قال الكاتب غسان ريفي أن “الحرص الواضح من ماكرون وابن سلمان على إجراء الاتصال مع ميقاتي وليس مع رئيس الجمهورية ميشال عون، يشير إلى أن الهدف منه هو التأكيد على دعم حكومة معا للإنقاذ (شعار الحكومة اللبنانية)، ودعم ميقاتي شخصيا، خصوصا أنه أظهر صلابة وعزما على التصدي لهذه الأزمة التي انتهت باستقالة قرداحي”.

ولفت ريفي في حديث مع “الاستقلال” إلى “عودة لبنان للاهتمام الدولي والعربي عبر الجهود التي بذلها ميقاتي، بدءا من قمة غلاسكو (الأممية لتغير المناخ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2021)، إلى الفاتيكان، وصولا إلى الاتصال الثلاثي “.

وأكد أن “مسار العلاقة السعودية اللبنانية يحتاج المزيد من النضوج الذي يجب أن يترجم في مكان واحد، ألا وهو إحياء مشروع سيدر (مؤتمر دولي عقد عام 2018 لمساعدة لبنان، لكن لم يتم تنفيذ مقرراته) بدعم سعودي لانطلاق خطة التعافي الاقتصادي التي ستطلقها حكومة ميقاتي”.

 

مجاملة ضيف

مقابل الأجواء الإيجابية الحذرة، ثمة العديد من البنود التي وردت في البيان السعودي الفرنسي المشترك، اعتبرت لبنانيا بمثابة “شروط قاسية” أو “إشارات سلبية”، في ظل علامات استفهام كبيرة عن مدى قدرة حكومة ميقاتي على القيام بتطبيق تلك البنود.

فقد نص البيان، إضافة إلى شروط إجراء إصلاحات شاملة، على “الالتزام باتفاق الطائف عام 1989، وحصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وتطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان وهي 1059، 1701، 1680، وألا يكون لبنان منطلقا لأعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدرا لتجارة المخدرات”.

ومعنى ذلك عمليا، الحديث عن “حزب الله” بالتحديد، مع اتهام السعودية له بالوقوف خلف تصدير المخدرات إليها، وكذلك تدريب مليشيا “الحوثيين” في اليمن.

إضافة إلى أن اتفاق الطائف والقرارات الدولية تتحدث عن نزع سلاح المليشيات، والتي لم يبق منها سوى “حزب الله” الذي يرفض تسليم سلاحه بذريعة مقاومة إسرائيل.

وفي 6 ديسمبر/كانون الأول 2021، قالت صحيفة “الأخبار” اللبنانية المقربة من حزب الله، إن “البيان السعودي الفرنسي المشترك ليس سوى اشتباك مع حزب الله، نجح ولي العهد السعودي في جر الرئيس الفرنسي إليه”.

وأشارت “الأخبار” إلى أن “العلاقات السعودية اللبنانية لن تعود إلى سابق عهدها”، مستدلة بالبيان الذي وصفته بـ”بيان الانتداب السعودي الفرنسي”، والذي تعتبر الصحيفة أنه “لا يمكن قراءته إلا من زاوية تسعير الأزمة مع لبنان، بطرحه عناوين سياسية انقسامية تصب كلها في وجه حزب الله، تصفية لحساب قديم – جديد”.

وفي “الأخبار” أيضا، قال الكاتب السياسي، نقولا ناصيف، في مقالة له بعنوان “البيان المشترك يعيد الاصطفاف: من مع، ومن ضد؟” نشرت في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2021، أن “البيان المشترك رسم سقفا لكل ما تعده المملكة شرطا لعودتها إلى لبنان، ووجه دون أن يسمي أصابع الاتهام إلى حزب الله”.

ولم يشفع البيان المواقف المتصلبة التي تضمنها بأي إيحاءات بإجراءات سعودية إيجابية محتملة، تساعد في تطبيع العلاقات بين البلدين.

ولفت ناصيف إلى أن “ما يفترض أن يفعله لبنان كشرط لاستعادة التطبيع، فيكمن في المشكلة الأكثر تعقيدا، وهي موقع حزب الله في المعادلة الداخلية، كما في تمدد نشاطه خارج لبنان، كما في مقاربة المعضلات مستحيلة الحل إلى الآن، أي القرارات الدولية التي لم تطبق منذ صدورها، والتي ينقسم اللبنانيون حول تفسيرها، وليس على تطبيقها فحسب”.

وكتبت الصحفية غادة حلاوي في جريدة “نداء الوطن”، مقالا في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2021، تحت عنوان “هل انتهى مفعول الاتصال السعودي برئيس الحكومة؟”، قالت فيه “بعد يومين، تبخرت جرعة التفاؤل التي ظهرت عقب اتصال ولي العهد السعودي برئيس الحكومة”.

واستشهدت حلاوي بتغريدة لسفير السعودية في لبنان وليد بخاري، يتحدث فيها عن “الحذف”، و”كأنه يلفت نظر ميقاتي إلى استحالة التغاضي عن مضمون البيان المشترك الذي صدر عقب المكالمة، والاكتفاء بالبناء على الاتصال الذي تلقاه من ولي العهد”.

وأشارت حلاوي إلى أن “السفير بخاري لم يعلن عن موعد قريب لعودته، ما يدفع المتفائلين إلى التراجع عن تفاؤلهم والتسليم بأن لا تغيير حصل ولا تقدم، بدليل أن لا موعد محددا لرئيس الحكومة من أجل زيارة المملكة، ولو لأداء مناسك العمرة، رغم إعلان ميقاتي رغبته بذلك لولي العهد”.

واعتبر الكاتب السياسي نديم قطيش، في مقال نشره عبر موقع “أساس” اللبناني في 6 ديسمبر/كانون الأول 2021، أن “استقالة قرداحي تؤكد ولا تنفي ما تشكو منه دول الخليج العربي، وهو أن لبنان واقع تحت وصاية حزب الله، فمن منع الاستقالة شهرا وأجازها الآن هو حزب الله بلا لف ولا دوران، وهذا فقط ما يعني صانع القرار الخليجي”.

وعن الاتصال الهاتفي بين ابن سلمان وميقاتي، قال قطيش: “مخاطبة ولي عهد السعودية رئيس حكومة لبنان من الهاتف الشخصي لرئيس فرنسا فهو لزوم اللحظة، ومجاملة لمطلب شخصي من ماكرون، الذي يعد أول رئيس غربي يزور ابن سلمان منذ جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، وهذا اختراق دبلوماسي وسياسي ومفصلي كبير للرياض”.