يتسم نظام آل سعود بتاريخ طويل من الخلافات والصراعات في ظل مراحل متكررة من العصيان والاعتقالات وفق بواعث الانتقام الشخصي والطمع في السلطة والنفوذ.

عاد هذا التاريخ الأسود من الصراعات داخل النظام مؤخرًا بعد اعتقال الأميرين أحمد بن عبد العزيز ومحمد بن نايف وأمراء ومسؤولين آخرين بتهمة “التآمر مع قوى أجنبية” مطلع الشهر الجاري.

وتم النظر إلى الاعتقالات على أنها محطة أخرى في مسلسل الصراعات داخل أجنحة النظام وانقلاب أخر على تفاهمات أهل السلطة والمال التي صبغت العهود السابقة بلونها.

ويظهر التاريخ الحديث أن اعتقال الأمراء أو مصادرة أموالهم أو اتهامهم بالتآمر له ما يشبهه في “الدولة السعودية الثالثة” التي اكتمل تأسيسها عام 1932.

ولم يكن مر على الدولة السعودية الثالثة سوى عقدين وبضع سنوات حين نشب الخلاف بين الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل، اُتهم الأول بتبديد خزينة الدولة عبر بناء القصور وتعطيل المشاريع العامة والسماح للأمراء المقربين منه بالإفادة من موارد البلاد الاقتصادية دون رقيب، على نحو قاد الرياض إلى أزمة مالية خانقة، ناهيك عن المآخذ التي رأت فيه ملكًا يستأثر بالسلطة ويهمش مجلس وزرائه.

استلم سعود السلطة بعد وفاة أبيه عبد العزيز عام 1953، وتشكلت ملامح نفور بين الحاكم الجديد وأخيه فيصل الذي عين نائبًا لرئيس الوزراء (الملك) ووزيرًا للخارجية ومثّل وجهًا إصلاحيًا استقطب حوله نخبة متعلمة لم تخفِ رغبتها في الاقتداء بالنماذج الناهضة في الشرق، ومناهضة الاستعمار الغربي وأدواته في المنطقة العربية، مما يعين على فهم الأثر الذي أحدثته أنباء سعي الملك سعود عام 1958 لاغتيال رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر الذي تمحورت خطاباته الجماهيرية حول تفكيك الهيمنة الغربية ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الثالث بأسره خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته.

مخطط الملك سعود لاغتيال عبد الناصر -بحسب صحف عربية عدة وقتذاك- جاء في وقت تمتع فيه عبد الناصر بأوج شعبيته وفي الشهر الذي تلا إعلان “دولة الوحدة” (1958-1961) بين مصر وسوريا، والتي كان الرئيس المصري يسعى إلى ضم السعودية إليها، خاصة بعد اتفاق الدول الثلاث عام 1957 على رفض “مبدأ إيزنهاور” الذي كان ظاهره القبول الأميركي بالتدخل في أي دولة شرق أوسطية تطلب حكومتها ذلك، بينما باطنه يشير إلى رغبة أميركية حقيقية في تطويق مشاريع عبد الناصر في المنطقة، وكسب مزيد من القواعد في حرب واشنطن الباردة مع الاتحاد السوفياتي.

محاولة اغتيال عبد الناصر كانت القطرة التي أفاضت كأس الأمير فيصل وإخوته المعارضين لتوجهات الملك، فشعبية الرئيس المصري في السعودية كانت ظاهرة للعيان حتى في أوساط الأمراء الذين أعادوا حينها طرح الأسئلة بشأن أهلية الملك سعود للحكم.

وفي وضع كهذا بدا ولي العهد الأمير فيصل نقيضًا مأمولاً للساحتين المحلية والإقليمية، فقد عرف أول الأمر بتقشفه، ورفضه أن يزاوج المسؤولين بين المنصب والتجارة، وميله للفكرة القومية المطعمة بالدين، لكنه تبنى لاحقًا كما قال الباحث التاريخي عبد الله الشمري في حواره مع الجزيرة نت “اتجاهًا مناهضًا للخط القومي عزز مفهوم “الأمة الإسلامية”، وفتح الأبواب أمام التيارات الإسلامية -خاصة الإخوان المسلمين- لتلجم التمدد القومي”.

وفي ظل هذا الشد والجذب بين الملك ونائبه رأى فريق من الأمراء أن الحل لخروج السعودية من مآزقها هو في إشراك الشعب في اتخاذ القرار، وتغليب مصلحة الجماعة الوطنية على أهواء الأفراد، بحيث تحل الخلافات السياسية تحت سقف مجلس تشريعي، وتحتكم القوى الفاعلة إلى دستور مكتوب.

وبعد أن شكل الملك سعود حكومة جديدة من دون الأمير فيصل نهاية عام 1960 بعد قبول استقالة الأخير من رئاسة الوزراء أصبح لثلاثة أمراء شباب ذوي توجهات “إصلاحية” حضور قوي في مجلس الوزراء الجديد، إذ عهد إلى الأمير طلال بحقيبة المالية، والأمير عبد المحسن بوزارة الداخلية، والأمير بدر بحقيبة المواصلات، أما رابعهم الأمير فواز فقد أعطي إمارة الرياض.

حُسب الأمراء الأربعة على جناح الملك سعود، وتصرفوا بمعزل عن بقية الأطراف في العائلة المالكة رغبة في الابتعاد عما يؤخر وضع مطالبهم موضع التطبيق، وتلخصت هذه المطالب في ثلاث نقاط رئيسية: إنشاء مجلس شورى (لا يعرف الانتخاب في بداياته)، وكتابة نظام أساسي للحكم (دستور)، وإيجاد مجلس ينظم شؤون العائلة المالكة.

يشك الشمري في مصداقية المطالب التي أعلنها الأمراء الأربعة، ويرى أنه من المستبعد أن تكون “نية أبناء عبد العزيز تطبيق نظام دستوري ديمقراطي، فمن يعرف طبيعة بنية نظام آل سعود الدينية والاجتماعية يعلم بأن هذا يستحيل، لأنه سيسلب هؤلاء الأمراء ما تبقى لهم من نفوذ”.

نجح الأمير طلال في إقناع أخيه الملك بالاستعانة بخبراء دستوريين من مصر لوضع دستور للبلاد سربت مسودته إلى صحيفة “الجريدة” اللبنانية، وزادت هذه الخطوة الصراع داخل أروقة الحكم اشتعالاً، فتوقف الحديث عن الموضوع.

وحين بلغت الحكومة الجديدة من العمر تسعة أشهر، وبعد أن تمكن الأمير طلال من الدفع باتجاه إغلاق القاعدة العسكرية الأميركية في الظهران جاء من يوغر صدر الملك على الأمراء الشباب، ويحذره من أن مطالبهم قد تسيء إلى تاريخ أبيهم، الملك عبد العزيز.

لم يكن ذلك إلا جزءًا مما لم يتفق عليه الملك مع الأمراء الأربعة الذين رأوا أن الملك يصغي إلى المحافظين وعلماء الدين أكثر من طاقتهم على الاحتمال، فقرر الملك سعود إقالة الأمير طلال من وزارة المالية، واستقال الأمراء الثلاثة من مناصبهم تضامنًا معه، خرج الأمراء الأربعة من الحكومة، واتخذ قائدهم الأمير طلال قراره بعدم الاضطلاع بأي دور سياسي.

غادر الأمير طلال إلى بيروت في أغسطس/آب 1962، وحين استقر به المقام هناك تلقى اتصالاً هاتفيًا من الرياض يخبره أن أمواله صودرت بتهمة التآمر على نظام الحكم، وأنه مأمور بتسليم جواز سفره إلى القائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان.

وإثر ذلك عقد “الأمير الأحمر” مؤتمرًا صحفيًا في بيروت صب فيه جام غضبه على السلطة السعودية، واتهمها بالدكتاتورية والتسرع في اتخاذ القرارات.

بدورها، توجست السلطات اللبنانية من وجود الأمراء المعارضين على أراضيها، ورأت أن الحفاظ على العلاقات مع المملكة يقضي بأن يغادر الأمراء المنفيون إلى وجهة أخرى، فعقد الأربعة العزم على السفر إلى القاهرة والحصول على جواز سفر مصري يتيح لهم التنقل بحرية، وما إن حطت بهم الطائرة في مطار القاهرة في 19 أغسطس/آب 1962 حتى استقبلتهم الصحافة المصرية بلقب جديد هو “الأمراء الأحرار”.

في القاهرة اغتنم “الأمراء الأحرار” كل فرصة سنحت لمهاجمة الحكم السعودي، فزادت تصريحاتهم النارية ضد الملك القطيعة بين نظامي سعود وعبد الناصر، ووجد الرئيس المصري في “الأمراء الأحرار” مثالاً صريحًا لتعامل الحكم السعودي مع معارضيه، حتى من أبناء الملك عبد العزيز، ففتحت أمامهم أبواب إذاعة “صوت العرب”، واحتفت بهم الصحف المصرية التي نشرت بيانًا صدر عنهم في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1962 ينتقد النظام السعودي ويؤيد بعبارات قاطعة “ثورة سبتمبر” اليمنية بقيادة المشير عبد الله السلال التي وقف النظام السعودي ضدها.

هذا الموقف “الثوري” كان له ما بعده، فقبل أن يسدل عام 1962 الستار على أيامه الأخيرة تشكلت في القاهرة “جبهة التحرير الوطني العربية” عبر اندماج خمسة تنظيمات سعودية معارضة تراوحت خلفياتها بين الناصري والشيوعي والبعثي والشيعي، بالإضافة إلى حركة “الأمراء الأحرار”، واختير الأمير طلال أمينًا عامًا للجبهة الوليدة.

أما في الرياض فقد ألف الأمير فيصل حكومة جديدة في غياب الملك سعود الذي كان يتلقى العلاج في الخارج، دون أن يشهد التشكيل الوزاري حقائب لأبناء الملك، ووعدت الحكومة المشكلة حديثًا بوضع نظام أساسي للحكم وتأسيس مجلس للقضاء وإلغاء الرق، واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن عاد الملك سعود من رحلته العلاجية، ولم يكن ما رأى من تغييرات سوى بداية النهاية لحكمه.

احتد الصراع بين الملك وولي عهده، وكاد الأمر أن يصل إلى صراع مسلح بينهما لولا تدخل علماء دين وكبار رجال العائلة المالكة الذين وقفوا إلى جانب الأمير فيصل وطالبوا الملك سعود بالتنحي.

هذه التطورات، إضافة إلى توتر علاقات الأمراء الأحرار مع النظام المصري الذي قصفت طائراته جازان دعمًا للثوار اليمنيين ضد محاولات الإماميين استعادة حكمهم انطلاقًا من الأراضي السعودية وبدعم علني من النظام الملكي في الرياض، قادت الأمراء الأحرار إلى التفكير في إيقاف نشاطهم السياسي في المنفى والعودة إلى السعودية.

ويمكن أيضًا اعتبار شعورهم باللاجدوى وانعدام التأثير -كما جاء على لسان الأمير طلال غير مرة- من بين الأسباب التي عجلت بقبولهم الوساطات عبر صحفيين عرب موالين للنظام السعودي مثل كامل مروة أو من أحد الأمراء المقربين من الملك فيصل كالأمير عبد الله الذي أصبح ملكًا للسعودية عام 2005.

وفي منتصف 1964 -وهو العام الذي اعتلى فيه فيصل العرش بعد تنحي الملك سعود- عاد الأمراء بدر وفواز وابن عمهما سعد بن فهد إلى الرياض (الأمير عبد المحسن الذي كان مع فريق “الأمراء الأحرار” في بداياته لم يغادر مع إخوته وابن عمهم إلى بيروت، وبقي الوجه الصامت من الحركة في السعودية)، ثم ما لبث طلال أن لحق بهم في نهاية العام ذاته، طاويًا بذلك صفحة المعارضة التي بعودتها -كما يرى الشمري- “لم تحقق شيئًا يذكر.

فقد عاد الأمراء وحصلوا على امتيازات كثيرة، فصاروا من رؤساء الإقطاع وملاك الأراضي الشاسعة، وهذا دليل على أنهم لم يحملوا مشروعًا نهضويًا أو رؤية إصلاحية شاملة من شأنها أن تغير حال الشعب نحو المزيد من الحرية السياسية”.