تعتبر التغيرات السياسية والاقتصادية التي تجري في السعودية خطيرة، خاصة ما يتعلق منها بالتحديات الداخلية بما في ذلك العلاقات المتوترة بين أفراد العائلة المالكة، مما يهدد القواعد التقليدية التي كانت تعزز الاستقرار وتضمن الشرعية، كما أن الظروف الإقليمية والدولية تجعل جميع خيارات المملكة غير مرغوب فيها نظرا لعدم اليقين حول نتائجها.
يقود عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السعودية اليوم ولي العهد “محمد بن سلمان” الذي يشاهد بنفسه عدم الاستقرار الذي تخلقه قراراته وأفعاله ولامبالاته.
إن اعتقال “بن سلمان” لأمراء سعوديين بارزين بتهم التحريض، وإدارته لحرب أسعار النفط ليسا سوى مثالين على تحدي قواعد الاستقرار التي وضعها جده مؤسس الدولة السعودية الثالثة، الملك “عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود”.
وفي غياب واضح للقيادة الحاسمة من قبل والده، الملك “سلمان بن عبدالعزيز”، فإن الإدارة الفوضوية والاستبدادية لولي العهد في هذه اللحظة المحورية من التاريخ السعودي قد تعيق إنشاء الدولة السعودية الرابعة التي يرغب “بن سلمان” في تدشينها.
توطيد السلطة
بناء على أوامر مباشرة من “بن سلمان”، اعتقلت قوات الأمن السعودية حوالي 20 من أمراء “آل سعود”، وأبرزهم شقيق الملك “سلمان”، “أحمد بن عبدالعزيز” وولي العهد السابق الأمير “محمد بن نايف”.
وفي حين كان الشك الأول هو اتهام الاثنين بتنظيم انقلاب ضد “بن سلمان”، كان هناك تفسير آخر وهو أن أعضاء مجلس البيعة وهي هيئة أنشأها الملك الراحل “عبدالله بن عبدالعزيز” عام 2007 للمساعدة في اختيار ولي العهد المستقبلي، أرادوا من الأمير “أحمد” أن يكون قائد المجلس. ربما كانوا يعتقدون أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تمنع “بن سلمان” من تولي العرش عند وفاة والده.
يشار إلى أن الأمير “أحمد” واثنين آخرين في المجلس اعترضوا على اختيار “بن سلمان” وليا للعهد عام 2017، وهي علامة مؤكدة على معارضته، وبالتالي توفير سبب وجيه لاعتقالهم.
إن إلقاء القبض على الأميرين “أحمد” و”بن نايف” يشير إلى رغبة “بن سلمان” في أن يكون زعيما بلا منازع للعائلة والمملكة. وقد رافق ما سبق استبدال الملك “سلمان” في سبتمبر/أيلول 2019 لوزير الطاقة “خالد الفالح” بنجله “عبدالعزيز بن سلمان”، وبالتالي وضع المصير الاقتصادي للمملكة بالكامل في أيدي ولي العهد.
وتعزز هذا الأمر باعتقال حوالي 300 من المسؤولين الحكوميين المدنيين والعسكريين بتهم تتعلق بالفساد في منتصف مارس/آذار، ومن قبلها حملة عام 2017 ضد رجال الأعمال والأمراء.
اللعب بنار النفط
بينما يتطلع “بن سلمان” إلى تعزيز سلطته السياسية، فإنه يقامر بأكثر ميزة تتمتع بها السعودية منذ سنواتها الأولى كونها الدولة النفطية التي لا غنى عنها. في أوائل مارس/آذار، فشلت المفاوضات في خفض إنتاج النفط بين منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” التي تقودها السعودية والدول غير الأعضاء في “أوبك”، مما أدى فعليًا إلى إنهاء ما أصبح يعرف باسم “اتفاق أوبك+” الذي تم التوصل إليه عام 2016.
وكانت روسيا، هي الطرف الرئيسي الذي رفض تقبل خفض الإنتاج لأنها ترفض منح منتجي النفط الصخري الأمريكي فرصة مجانية لأنهم لم يكونوا جزءًا من الصفقة ولم يتوجب عليهم الحد من إنتاجهم. وأدى انهيار الاتفاقية على الفور إلى انخفاض حاد في أسعار النفط، وهو الوضع الذي تفاقم بسبب التباطؤ العام في الاقتصاد الدولي بسبب وباء “كورونا”.
وتفاقمت حماقة هذه النظرة قصيرة المدى عندما قررت السعودية زيادة إنتاجها وإغراق السوق بالنفط الخام للحفاظ على حصتها السوقية وتوسيعها.
بعد الإعلان عن زيادة الإنتاج مباشرة، طلبت وزارة المالية السعودية من جميع الجهات الحكومية تقديم مقترحات بتخفيضات تتراوح بين 20 و 30% في ميزانياتها لعام 2020، وهو إجراء من شأنه أن يوقف المشاريع وخطط التنمية عمليًا. من الواضح أنه يهدف إلى الحد من العجز الذي أصبح حقيقة واقعة.
وللحصول على ميزانية متوازنة عام 2020، تحتاج السعودية إلى سعر قياسي يبلغ 84 دولارًا للبرميل.
علاوة على ذلك، يهدد الاضطراب المالي مصير خطة “رؤية 2030” للتنمية الاقتصادية وتنويع الاقتصاد. تعتمد هذه الرؤية أيضًا على تقييم “أرامكو”، لكن أسهم الشركة شهدت انخفاضًا بنسبة 13% بين 2 يناير/كانون الثاني (35.15 ريالًا للسهم) و 1 أبريل/نيسان (30.60 ريالًا للسهم) بعد انهيار سعر الخام.
وجاء انخفاض سعر السهم هذا بعد الانخفاض بنسبة 20.6% في صافي أرباح الشركة عام 2019، وهي حقيقة قد تجعلها أقل جاذبية للمستثمرين الأجانب عام 2020 وما بعده.
علاقات غير مؤكدة مع الولايات المتحدة
بعد العديد من الأخطاء الداخلية والخارجية التي اتخذها “بن سلمان” منذ صعوده إلى منصب ولي العهد في يونيو/حزيران 2017، قد لا يكون طريقه إلى السلطة سلسًا كما افترض أنه سيكون في الأيام الأولى لإدارة “ترامب”.
في الواقع، كانت السعودية الوجهة الخارجية الأولى لـ”ترامب”. وقد نجح في بناء علاقة قوية مع الملك “سلمان” وابنه، أسفرت حتى الآن عن صفقات أسلحة كبيرة. وقد دفع ذلك الولايات المتحدة لغض الطرف عن تجاوزات ولي العهد بما في ذلك اعتقال الناشطات واغتيال الصحفي “جمال خاشقجي” وكذلك جرائم الحرب في اليمن.
ولكن بعد حرب أسعار النفط الأخيرة، أدخلت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين من الولايات الأمريكية المنتجة للنفط تشريعًا يجبر إدارة “ترامب” على سحب القوات الأمريكية من السعودية بسبب دور المملكة في حرب الأسعار والإنتاج. ستضع مثل هذه الخطوة دائمًا البيت الأبيض على حافة الهاوية وتذكّر “ترامب” بأنه قد لا يكون لديه الكثير من حرية العمل عندما يتعلق الأمر بالمصالح المالية لدوائره الانتخابية المحددة.
من المؤكد أن سياسات بن “سلمان” تجاه أمراء آخرين من العائلة المالكة وإخفاقه النفطي يمكن أن يقوض إلى حد كبير تقدير “ترامب” لقيادة الأمير السعودي وصداقته. إن ما يحدث في العائلة المالكة يخلق عدم استقرار داخلي ويزيد بطبيعة الحال أعداء ولي العهد وجنون العظمة لديه، الأمر الذي يدفعه بدوره إلى مواصلة إجراءات القمع التي يشنها من خلال حلقة مفرغة لا نهاية لها.
ويضاف هذا التقلب في السياسة الداخلية السعودية إلى ارتباك “ترامب” بشأن ولي العهد بسبب جهله للفروق الدقيقة في الشؤون الداخلية للملكة.
الدولة السعودية الرابعة
تحرص وسائل الإعلام السعودية على إظهار أن الملك “سلمان” لا يزال مسؤولاً عن المملكة وشؤونها، بغض النظر عن عمره المتقدم وضعفه.
وفي الوقت نفسه، ساعد ولي العهد بالفعل على إعادة تشكيل السعودية بشكل يرضيه، وهو ما يعتقد أنه قد يكون أساساً جيداً لدولة سعودية رابعة تحت سيطرته.
لكن ما حدث خلال أقل من 3 سنوات من قيادة “بن سلمان” يشير إلى أن الرياح قد لا تهب كما يريد، وكل ذلك بسبب اندفاعه وقراراته غير الحكيمة.
إن احتجاز “بن سلمان” لأمراء العائلة المالكة يسلبهم الكرامة ويحرمه من ولائهم بينما تكلفه المقامرة الاقتصادية ثمناً باهظاً.
يبدأ مأزق “بن سلمان” في اليمن الآن عامه السادس وبالإضافة لرفضه حل الأزمة الخليجية، وتحديه للمبادئ الأمريكية للاستقرار الإقليمي، يراكم ولي العهد بعض الأسباب التي تنذر بانهيار محتمل لحلم بناء دولة سعودية جديدة على أنقاض دولة أخرى.