بقلم/ د. زياد منى – باحث وناشر في التاريخ والدراسات الكتابية
يحكي كتاب «مدافن رجال الدين: الفعاليات اليومية في السعودية» (منشورات جامعة ستانفورد ـ 2020) القصة الداخلية للاحتجاج السياسي في السعودية؛ على الأرض وفي الضواحي وفي مواجهة قمع الدولة المتزايد، ويتناول بالعرض والتحليل ظاهرتين عالميتين مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً بالمملكة السعودية هما: الزحف العمراني والنشاط الديني.
الكاتب، باسكال مينوريه حصل على درجة الأستاذية في جامعتَي «برينستون» و«هارفرد» والمحاضر في جامعة «برندايس» الأميركية.
يقول مينوريه: «ظهرت الضواحي السعودية بعد الحرب العالمية الثانية حيث فرّ المواطنون إليها من المدن المزدحمة. لقد تم تطوير الضواحي لتشجيع قيام مجتمع من المواطنين المطيعين والمعزولين، لكنها بدلاً من ذلك فتحت مساحات جديدة أمام العمل السياسي حيث حوّل النشطاء الدينيون بشكل خاص المنازل والمدارس والمساجد والمخيمات الصيفية إلى موارد للتعبئة. بدعم من الشبكات الشعبية في الضواحي، فاز النشطاء في الانتخابات المحلية ووجدوا فرصاً للاحتجاج على الإجراءات الحكومية حتى واجهوا موجة جديدة من القمع في ظلّ القيادة السعودية الحالية».
الكاتب الذي أمضى أربع سنوات في مملكة آل سعود في الأمكنة التي ظهر فيها النشاط الإسلامي اليوم للمرة الأولى، يروي كونه شاهد عيان قصص الأشخاص الذين يواجهون الدولة السعودية بنشاط، ويسلط الضوء على كيفية تنظيم الناس والاحتجاج حتى في خضمّ قمع الشرطة المتزايد.
قسّم باسكال مينوريه عمله إلى أربعة أجزاء: هي اليقظة الإسلامية، والضواحي السعودية، ومجموعات التوعية والمخيمات الصيفية، وترك النشاط الإسلامي في الخلف، وتضمّ الأجزاء مجتمعةً 24 فصلاً.
يغير هذا الكتاب الطريقة التي ننظر بها إلى النشاط الديني في المملكة السعودية، كما يقدّم حكاية تحذيرية: القمع المستمرّ من قبل النخب السعودية الذي يتم في كثير من الأحيان بتواطؤ المجتمع الدولي، يؤدي إلى قمع الحركات السياسية الشعبية مع عواقب وخيمة على البلاد والعالم.
لذلك فهو يقول: علينا أن نفهم على نحو أفضل العلاقات المعقدة بين النشاط والإصلاح والقمع. لذلك فإن مشروعي هو فحص الغموض والتناقضات التي لا يمكن فصلها عن الحياة اليومية للنشطاء العاديين.
لكن القول إن السعودية مقبرة لرجال دين لا يعني فقط أن الدولة، بتأسيسها ديانة رسمية، قد أجبرت رجال دينها وخطباءها على ارتداء سترة ضيقة، بل يعني أيضاً وجود علاقة حميمية بين الأمة والمقابر.
فقد ولدت المملكة السعودية من خلال عملية تدمير قبور القديسين والأنبياء والشهداء في عشرينيات القرن الماضي. فبعدما غزا عبد العزيز مدينتَي مكة والمدينة المقدستين، هدم جيشه مدينة الموت في البقيع وهي مقابر دُفن فيها أقارب النبي محمد ﷺ.
كان الدمار شاملاً. القبور لم «تدمّر عرضاً بل جُرفت من أمكنتها وأرضها صغيرة، وأصبحت السعودية مقبرة للمقابر» وفق ما كتبه رحالة أوروبي مرّ بالمدينة المنورة في عام 1926.
المقابر الحديثة في السعودية محاطة بجدران وفارغة: لا شواهد قبور، ولا نقوش. فقط حصى أو رمل أو تراب، ولتمييز كل قبر، ثمة حجر عارٍ. في بعض المدن، تقوم الخدمات البلدية «بتطهير» المقابر كل عامين لإفساح المجال أمام الهياكل الجديدة.
وفي مكة يتم دفع الجثث جانباً، وخلطها بعظام أكبر سناً كل عام، وأصبح الدفن بالقرب من المسجد الكبير سلعةً ثمينةً مثل المدن التي تحيط به. فالمقابر في السعودية عابرة وخاضعة لأسعار السوق.
المقبرة هي المكان الذي يُلقى فيه الموتى بعيداً، ويدفعون نحو محيط المدينة. لكن المدن المتنامية الآن تحيط بالمقابر، وأصبحت الأطراف المركز. إن كون السعودية مقبرة لرجال دين يعني أن رجال الدين أيضاً يتعرضون باستمرار لخطر الموت المجازي أو الفعلي. وقد أوقفتهم الدولة في حالة ما بين الحياة والموت، وحكمت عليهم أن يكونوا «الموتى الأحياء».
وهذا يعني أيضاً أن المكان ينتظر انتعاشاً، وأن سياساته في حاجة إلى إعادة سحر. لا عجب أن الحركة الاجتماعية والسياسية الرئيسية في البلاد أطلقت على نفسها اسم «الصحوة». كان هناك كثير مما يجب إيقاظه في عالم الموت الذي أنشأته عائلة آل سعود بدءاً من شوارع الرياض نفسها التي قضى عليها الأمراء والمخططون والمطوّرون.
يوضح الكاتب أنه لا يمكن النظر إلى النشاط الإسلامي، في مملكة آل سعود أو في أي مكان آخر، على أنه عمل مؤقت يقف في منتصف الطريق بين التقليد والحداثة، أو كحلّ وسط من شأنه أن ينحل عند ظهور العقلانية الليبرالية.
ويصل إلى استنتاج أن الحركات الإسلامية ليست بقايا تقاليد سياسية قديمة، على وشك أن تبتلعها موجة ديمقراطية تجعلها عفا عليها الزمن أو تقوضها دولة استبدادية تعتقل وتعذب وتدفن.
والحركات الإسلامية ليست آخر حشرجة فولكلورية للمخلوق المضطهد. لقد قاوم النشطاء الإسلاميون «السعوديون» الاندماج العنيف لبلادهم في الإمبراطورية الأميركية، من تجارة النفط العالمية إلى تجارة الأسلحة العالمية ومن الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب.
في مواجهة هذا العنف المطلق، لم يكن الاستيلاء على الدولة خياراً على الإطلاق. كان التنظيم في شروخه، أي أن الصحوة الإسلامية ربما لم تمت، لكنها معطّلة، وقد تطفو على السطح عندما تحين الظروف.