مقدمة
أعاد خبر منح الجنسية السعودية لعدد من الشخصيات قضية عديمي الجنسية في السعودية إلى الواجهة من جديد. ففي خطوة غير مسبوقة، أعلنت المملكة العربية السعودية في وقت سابق عن فتح باب التجنيس لعدد من أصحاب الكفاءات العلمية التي تنطبق عليهم شروط الحصول على الجنسية السعودية. وقد صاحب ذلك الإعلان منح الجنسية السعودية لعدد من الشخصيات الذين قدموا خدمات جليلة للوطن، حسب الخبر. شملت القائمة عدداً من رجالات الثقافة والفكر والرياضة والأعمال. ولكن المخيب للآمال أن منح الجنسية في المملكة العربية السعودية سيكون قائماً على الترشيح وفق ”الصالح العام“، و“لن يكون هناك فتح باب تقديم للطلبات بهذا الخصوص“!
بالرغم أن خطوة التجنيس الأخيرة يمكن أن تكون في الاتجاه الصحيح لتحسين السجل الحقوقي للسعودية، إلا أنه إذا لم يتم اعتبار معاناة أكثر من ربع مليون ”بدون“ في السعودية من حرمان لأبسط الحقوق المدنية مثل حرية التنقل والتعليم والصحة والعمل، فإن منح الجنسية لبعض من هو في غنى عنها لا يساعد في حل هذه الأزمة. إن حق الحصول على جنسية بلد ما، إذا توافرت الشروط، هو حق إنساني، يؤخذ لا يمنح، وليس قراراً ”ملكيا“ يعطى لمن يأباه، ويحرمه من يطلبه. ونظراً لخطر المآلات والعواقب التي تنتقص من حقوق فئة البدون في السعودية بسبب وضعهم، على المجتمع الدولي أن يمارس ضغطاً إضافياً لتدارك المشاكل الناجمة عن رفضها الدائم لمنح عدد كبير من مواطني البدون الجنسية والكف عن انتهاكات حقوقهم.
خلفية
”البدون“ في السعودية، والخليج عامة، قضية متجذرة بعمر تلك الدول الرابضة فوق بحار النفط. تتعدد أسباب هذه القضية، كما يختلط فيها المذهبي مع القومي مع الأمني. إلا أن أصل المشكلة هو أن هذه الدول الثرية لا ترغب في حلول تعني إعطاء مزيد من الحقوق لهذه الفئة أو مشاركتهم في نصيب الثروة، ليبقى عديمو الجنسية مواطنون في وطن لا يعترف بهم وبحقوقهم أحد، ومحرومون بلا هوية في بلد لم يعرفوا غيره يوما.
وللتعرف على أسباب تكوّن هذه الظاهرة، أشارت صحيفة مكة السعودية إلى أن أهم أسباب نشوء مشكلة البدون في المملكة هو إما كونهم: أشخاص سحبت جنسيتهم دون سبب واضح معروف، أو أشخاص أعطوا هويات مؤقتة على وعد تجنيسهم ولم يتم ذلك حتى الآن، أو فئات أتت للسعودية منذ زمن طويل جدا بسبب الحج أو لاضطهادهم في بلدانهم وانقطعت العلاقة بينهم وبين بلادهم، حسب الصحيفة السعودية.
قد يكون البدون في السعودية أقل ضجيجا من جيرانهم في دول الخليج، لكن هذا لا يعني أن حالهم أفضل. ففئة البدون في السعودية هم أكثر عدداً، ولكنهم جميعا يرزحون تحت وطأة الظلم المتعمد والحرمان من جميع حقوق المواطنة، والتي هي أساس التمتع ببقية الحقوق المدنية، ناهيك عن الحقوق السياسية التي لا يتمتع بها أحد في البلاد! ففي حين أن الجنسية بحد ذاتها هي حق أساسي لكل إنسان (الفقرة ١ من المادة ١٥ من إعلان حقوق الإنسان)، والتي تضمن قانونيا أن يكون الشخص مستحقا لتلك الحقوق، يقبع عديمو الجنسية في أسفل سلّم حقوق الإنسان المنتهكة أصلا في السعودية.
يشير تقرير مركز ستراتفورد الأمريكي في تقرير حديث عن قضية البدون في الخليج أنه لا يمكن الجزم بالأرقام الدقيقة للبدون لأن معظم حكومات الخليج العربي تضع البدون ضمن فئة الأجانب عند إجراء المسوحات الديموغرافية. لكن العدد قد يصل إلى 350 ألف فرد في الخليج. كما لعبت التوازنات القبلية أو الطائفية دورا فاعلاً في حرمان هؤلاء من جنسياتهم، حسب التقرير الأمريكي. كما يرى التقرير أنه وقبل عقود قليلة فقط، كانت الجنسية الخليجية صعبة المنال. ولكن الخطوات الإماراتية والقطرية، ولاحقا السعودية، والتي جعلت الجنسية في متناول غير المسلمين وغير العرب. يمكن أن يساعد هذا في تمكين البدون من الحصول على القبول كمواطنين، خاصة وأن لديهم نفس الجذور الدينية والثقافية للمواطنين الأصليين. كما يمكن للبدون أن يكونوا حصنا ديموغرافياً وحلاً جذاباً لحكومات الخليج العربي بدل استقبال غير المسلمين وغير العرب كمواطنين. يختتم التقرير أن السعودية ستواجه مزيدًا من الضغوط لتحذو حذو الإمارات وقطر في تسريع عملية التجنيس للبدون، مما قد يؤثر على سمعتهما في مجال حقوق الإنسان. كما أن البدون في السعودية قد يضغطون من أجل تغييرات مماثلة في وضعهم كمواطنين. لكن إذا تمت مواجهة ذلك بمعارضة أو حتى حملة قمع من قبل الدولة السعودية، فإن ذلك سيعزز السمعة الدولية السيئة بالفعل السعودية في مجال حقوق الإنسان، مما قد يؤثر على المستثمرين بالمملكة ويضر بعلاقاتها مع بعض حلفائها الغربيين.
واقع أليم
وفي نظرة أقرب على حياة البدون في السعودية، يظهر بجلاء أنهم يعانون التمييز والإقصاء في مختلف المجالات، في التعليم والعمل والتنقل والعلاج بل حتى في حالة الزواج والوفاة! وذلك لعدم حيازتهم لبطاقات هوية وطنية أو أوراق ثبوتية. يولد الطفل من والد عديم الجنسية بلا شهادة ميلاد، ثم يكبر ليصطدم بحواجز الالتحاق بالمدرسة، ناهيك عن الالتحاق بجامعة، فهي مطلب بعيد المنال، دون ”واسطة“ أو ”منحة“. وإذا قرر مواطنو البدون الذهاب إلى سوق العمل فهو كابوس آخر،فلا يسمح لهم بالعمل بالقطاع الحكومي، وبالطبع فإنهم لا يستطيعون العمل في القطاع الخاص، الأمر الذي يقود كثيرا منهم أحيانا لتقبل ظروف عمل أقرب ما تكون إلى العبودية. أما بناء بيت العمر والزواج فهو قصة أخرى، فإذا قرر الزواج فإن الزواج لايمكن توثيقه في بشكل رسمي بسبب مشكلة بطاقات الهوية. حيث أشارت صحيفة الوطن السعودية في ٢٠١٥ إلى قرابة ١٠ آلاف حالة زواج لم يتم توثيقها لفئة البدون في السعودية. كما لا يسمح له بالتملك أو بمزاولة أي نشاط تجاري مهما كان بسيطا أو فتح حساب بنكي أو صرف شيك وغيرها.
ولا تنتهي معاناة عديمي الجنسية في السعودية في حياتهم، بل حتى في حالة الوفاة فإن المتوفى من هذه الفئة يحرم من حقه بالحصول على شهادة وفاة كما حُرم قبلها من أن يعيش حياة كريمة وبالتالي يتم رفض دفنه في المقابر المعتمدة، إلا بعد إجراءات معقدة قد تمتد لأيام.ومن الامتيازات التي تمنحها الدولة للمواطن السعودي والتي تحرمها لمواطنيها عديمي الجنسية هي الرعاية الطبية، حيث ترفض المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية وحتى الخاصة علاجهم بسبب عدم حملهم أوراقاً ثبوتية، مما يؤدي إلى مخاطر عدة تواجههم وخاصة النساء أو المتزوجات من البدون، إذ تكون ولادتهن غير مسجلة في الوثائق الرسمية مما يمنعهن من الحصول على الخدمات الحكومية الأساسية مثل الرعاية الصحية، وقد يمنعن في كثير من الأحيان من الولادة في المستشفيات العامة، وهو ما يشكل خطراً على حياة الأم والطفل. كما أن بعضهم قد يضطر إلى إدخال زوجاتهم إلى مستشفيات بأسماء نساء لديهن أوراق ثبوتية من أجل توليدهن، وعند خروجهن يضطرون إلى تمزيق تبليغ الولادة. كما تطول قائمة المعاناة والانتهاكات لهذه الفئة بدءً من تقييد أو منع لحرية السفر والتنقل وإمكان الدراسة في الخارج، وصولا إلى معاناتهم للفقر الشديد نتيجة عدم قدرتهم على الحصول على عمل، أو فتح حساب بنكي، أو حتى انضمامهم تحت الضمان الاجتماعي أو الجمعيات الخيرية. مما يستدعي تدخلا عاجلا لتدارك الوضع قبل فقدان السيطرة وتهديد المجتمع.
خاتمة وتوصيات
كرة الثلج، قنبلة موقوتة، أزمة متراكمة.. تعددت أسماء المشكلة، ولكن بقيت الحقيقة أن الحل أقرب مما نتصور وهو في متناول يد صانع القرار. إن قرار السعودية الأخير لتجنيس عدد من الشخصيات البارزة خطوة في الاتجاه الصحيح للنظر في هذا الملف الشائك المتراكم، وإن كان تجنيس هذه الكفاءات يعتبر نهج ”الدول المتقدمة“ كما يقول إعلاميو الحكومة، فإن إعطاء الحقوق الأساسية المسلوبة للآلاف من البدون، ممن ولد ونشأ وترعرع على تراب هذا البلد ولم يحب أو يعرف غيرها، هو التقدم الحقيقي.
إن حل أزمة المواطنين عديمي الجنسية لا تندرج تحت مظلة حقوق الإنسان فحسب، بل إنها مسألة أمن قومي ينبغي وضعها في حسبان صانع القرار. لا أحد يفضل المسار الأسوأ، ولكن إهمال هذه القضية أو تناسيها دون حل جذري، أو حتى حل حقيقي تدريجي، هو العامل الأبرز لتفاقم وتعاظم كرة الثلج هذه، ولن يزيدها الزمن إلا خطورة على النسيج الاجتماعي والسلم المدني. كما أن أبناء هذه الفئة معرضون أكثر من غيرهم لأن تستغلهم الجماعات المشبوهة والمتطرفة من خلال استغلال حاجتهم إلى وطن واستقرار. إن إنهاء هذه القضية بشكل جوهري، دون اللجوء إلى حلول مؤقتة، هو سبيل لكسب ثقة وولاء شريحة كبيرة من أبناء هذا البلد الذين ولدوا فيها وأعطوه حبهم، ولكنهم ظلوا بلا وطن!