كان لإفراج إدارة “بايدن” عن تقرير استخباراتي رفعت عنه السرية حول تورط ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” في اغتيال الصحفي “جمال خاشقجي” تداعيات خطيرة. وفي حين أن الإدارة لم تقل بعد ما الذي ستفعله بعد إصدار التقرير، فمن المرجح أن يواصل الرئيس الأمريكي إصراره على التحدث فقط مع الملك “سلمان”، وهو ما حدث في 25 فبراير/شباط. لكن هذا لن يكفي كرد أمريكي على جريمة القتل البشعة وتورط “بن سلمان” فيها، بالنظر إلى الجو العام المحيط بالقضية بين أعضاء الكونجرس ووسائل الإعلام والرأي العام.
ويجب أن يكون الإجراء الفوري بعد الكشف عن تورط “بن سلمان” في الجريمة هو إضافته إلى قائمة الـ17 سعوديا الذين فرضت إدارة “ترامب” عقوبات ضدهم. ومن شأن ذلك أن يمنعه من السفر ويجمد أصوله التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
وكان “بن سلمان” قد نجا من مثل هذا الإجراء بسبب حماية الرئيس السابق “دونالد ترامب” له. وفي الواقع، تفاخر “ترامب” في مقابلة عام 2018 مع الصحفي الاستقصائي “بوب وودوارد” بأنه أنقذ “بن سلمان” من الكونجرس، الذي طالب بكشف المعلومات التي لدى إدارة “ترامب” بشأن اغتيال “خاشقجي”.
وقد ينظر البعض إلى معاقبة “بن سلمان” بحظر السفر على أنها مجرد “قرصة أذن”؛ لأنها لن تؤثر على مطالبته بعرش السعودية. فبعد كل شيء، “بن سلمان” هو الحاكم الفعلي للمملكة، بينما يتراجع والده المريض الملك “سلمان بن عبدالعزيز” تدريجيا عن المشهد السياسي. وهكذا يمكن لولي العهد أن يسيطر على السلطة عبر ولاء قطاع عريض من المجتمع السعودي، فضلا عن القوى الاقتصادية والأمنية والعسكرية في البلاد.
ومع ذلك، فإن هذا المنطق يتجاهل التأثير الأخلاقي والسياسي والاقتصادي لتسمية ولي العهد باعتباره شخصا غير مرغوب فيه من قبل السلطات الأمريكية. واليوم، تعتبر السعودية زعيمة العالم العربي، ليس بسبب حجمها الكبير أو عدد سكانها ولكن بسبب نفوذها المالي وكونها موطن اثنين من أقدس الأماكن في العالم الإسلامي، المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. وفي كل عام، يشد نحو 2 مليون مسلم الرحال من جميع أنحاء العالم لأداء مناسك الحج في مكة.
وسيبقى اتهام ولي العهد بالمسؤولية عن القتل الشنيع لمواطن سعودي تجرأ على تقديم المشورة حول كيفية حماية ولي العهد ودولته لحقوق الإنسان في المملكة، لعنة وبقعة سوداء في جبين حاكم يستخدم لقب “خادم الحرمين الشريفين”. ومن المؤكد أن وضع “المنبوذ” لن يبشر بالخير بالنسبة للمكانة الأخلاقية لملك سعودي يريد أن يحظى باحترام العرب والمسلمين، بل والعالم.
ومن الناحية السياسية، من المعروف أن “بن سلمان” لديه العديد من الأعداء والمنافسين داخل العائلة المالكة السعودية، والذين ينتظرون لحظة مناسبة للظهور كمنافسين على العرش. فقبل صعود الملك “سلمان” إلى منصب ولي العهد عام 2012، لم يكن “بن سلمان” سوى “أمير”. وبحلول عام 2017، بعد عامين من تولي والده منصب الملك، أصبح “بن سلمان” وزيرا للدفاع ونائبا لولي العهد ابن عمه “محمد بن نايف”، ثم وليا للعهد بعد ذلك.
ولم يخل هذا الصعود من الآلام للعديد من الأمراء الآخرين، بما في ذلك ولي عهد “سلمان” الأول والثاني، “مقرن بن عبدالعزيز” و”محمد بن نايف”، بالإضافة إلى أولئك الذين خدموا في عهد عمه الملك “عبدالله”. كما شن “بن سلمان” حملة تطهير في صفوف العائلة المالكة ودوائر النخبة الأخرى. وبطبيعة الحال، خلق ذلك على طول الطريق العديد من المنافسين والأعداء الذين يمكنهم استخدام مكانته المتراجعة كرجل ملوث بالدم لتبرير الجهود الجادة للإطاحة به.
ومن الناحية الاقتصادية، يعتمد جزء كبير من أجندة “بن سلمان” على موقعه بصفته ملكا بلا منازع وشرعيا وخاليا من النقائص. وتتضمن خطته المعروفة بـ”رؤية 2030″ تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط، وتطوير قطاعي السياحة والترفيه، وتوقيع اتفاقيات ثنائية مع عمالقة التكنولوجيا والقوى التجارية، ومتابعة التطوير العقاري المذهل. وغني عن القول أن هذه المشاريع تتطلب مئات المليارات من الدولارات التي لا تملكها المملكة حاليا، بالنظر إلى تقلص الإيرادات من صادرات النفط خلال تباطؤ الاقتصاد العالمي.
ويتضمن أحد هذه المشاريع خطة غير واقعية لبناء مدينة “نيوم” على الساحل الشمالي الغربي للمملكة. وبتكلفة تبلغ نحو 500 مليار دولار، يُنتظر بناء هذه المدينة كمدينة خالية من الكربون؛ حيث تعتمد الحياة الاجتماعية والاقتصادية فقط على الطاقة المتجددة وحيث يتم التضحية بالتقاليد من أجل نسخة من الحداثة الهجينة.
وتتطلب مشاريع “بن سلمان” الجديدة أيضا ضخ مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية التي قد لا تأتي في أي وقت قريب.
وسوف تتفاقم التداعيات على الساحة الداخلية السعودية بفعل التطورات على الصعيدين الإقليمي والدولي، مثل حرب اليمن، وشؤون مجلس التعاون الخليجي، وموقف السعودية من إيران، ومكانة السعودية في العالم.
وفي الواقع، ستبدو المملكة مجروحة وضعيفة بوجود “بن سلمان” على رأسها. والأهم من ذلك، من المرجح أن تفقد المملكة الكثير من الدعم الذي كانت تعتمد عليه سابقا من الولايات المتحدة، ليس فقط عسكريا ولكن أيضا سياسيا واستراتيجيا، في وقت ينتشر فيه الحديث عن محور أمريكي آسيوي في العاصمة الأمريكية.
ويصبح السؤال حول العلاقات السعودية الأمريكية الآن هو هل تستطيع إدارة “بايدن” الاستمرار في التعامل مع المملكة كالمعتاد إذا احتفظ “بن سلمان” بمنصبه كولي للعهد؟ ويتبع هذا سؤال أكثر أهمية، وهو إذا لم يتخذ موقفا قويا ضد “بن سلمان”، هل يمكن لـ”بايدن” تجنب الانتقادات الداخلية القاسية التي ستندلع بلا شك بعد الكشف عن التقرير الاستخباراتي الذي قررت إدارته الإفراج عنه؟