على غير المتوقع، تسارعت الخطوات التركية، لإغلاق ملف قضية الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” وإحالته إلى السعودية، بعدما طلب المدعي العام التركي تعليق المحاكمة.
والخميس الماضي، قال قاضي المحكمة في إسطنبول حيث تجرى محاكمة 26 متهما سعوديا غيابيا منذ يوليو/تموز 2020: “قررنا إحالة القضية إلى السعودية”.
ويقف وراء القرار، حجج قانونية، وأسباب سياسية، ومصالح اقتصادية، وسط محاولات للتقارب بين أنقرة والرياض، وطي واحدة من أكثر صفحات التوتر سخونة في العلاقات بين البلدين، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018.
موقف قانوني
في سبتمبر/أيلول عام 2020 قضت محكمة سعودية بسجن 8 أشخاص لمدد تتراوح بين 7 أعوام و20 عاما لدورهم في عملية قتل “خاشقجي”، داخل قنصلية المملكة بإسطنبول، وإخفاء جثته إلى الآن.
لكن التطور الأهم، بدا حينما طلبت المحكمة التركية من وزارة العدل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إرسال خطاب للرياض تسأل فيها عن أولئك الذين حُكم عليهم في المملكة، لتفادي تعرضهم للعقاب مرتين.
وقال المدعي العام التركي حينها، إن السلطات السعودية ردت بطلب إحالة القضية إليها وإلغاء ما يسمى بالنشرات الحمراء الصادرة ضد المتهمين، كما تعهدت الرياض بالنظر في الاتهامات الموجهة للمتهمين الستة والعشرين إذا أحيلت القضية إليها.
وأضاف المدعي العام أن المتهمين مواطنين أجانب ولا يمكن تنفيذ مذكرات الضبط والنشرات الحمراء بحقهم، ومن ثم لا يمكن أخذ أقوالهم، وهو ما يعني بقاء القضية معلقة دون حسم.
وتنص المادة 23 المعنونة بـ”نقل التحقيق أو المقاضاة” من القانون التركي رقم 6706، على أنه “في حالة عدم وجود اتفاقية دولية، يجوز نقل التحقيقات أو الملاحقات القضائية”.
كذلك تنصن المادة 24 من القانون المذكور على “إمكانية نقل التحقيقات والملاحقات القضائية للجرائم التي تصل عقوبتها القصوى إلى السجن لمدة عام أو أكثر في حال لا يمكن فيها للمتهم التواجد في تركيا لكونه مواطن دولة أجنبية أو لا يمكن الحصول على دفاعه من خلال المساعدة القانونية”.
ويقول مسؤول تركي، لـ”رويترز”، إن “قرار إحالة القضية إلى السعودية لم نتخذه نحن ولا الساسة ولا الحكومة. المحاكم هي من فعلت ذلك”، مضيفا أن موافقة وزارة العدل كانت “مجرد مسألة فنية”.
وعن مستقبل القضية، قال وزير العدل التركي “بكير بوزداغ”، إنه إذا أدانت السلطات السعودية المتهمين، فإن المحكمة التركية ستُسقط القضية، وإذا تمت تبرئتهم في المملكة، فقد تستأنف المحكمة التركية المحاكمة.
رد غاضب
الخطوة التركية أثارت غضبا حقوقيا في الأوساط الدولية، واعتبرت الأمينة العامة لمنظمة العفو “أجنيس كالامار”، طلب المدعي العام التركي بأنه “يفتقر للأسس التي تدعمه”.
وكانت “كالامار” أجرت تحقيقاً بقيادة الأمم المتحدة، خلص إلى أن مسؤولين سعوديين خططوا وارتكبوا جريمة قتل “خاشقجي”.
بينما طالبت “هيومن رايتس ووتش” الحكومة التركية بإلغاء قرار إحالة قتل “خاشقجي”، المُنفَّذ برعاية الدولة السعودية، إلى السعودية نفسها، بحسب المنظمة الحقوقية.
وقال نائب مديرة الشرق الأوسط في المنظمة “مايكل بيج”، إن “نقل محاكمة خاشقجي من تركيا إلى السعودية سينهي أي إمكانية لتحقيق العدالة، ويعزز اعتقاد السلطات السعودية على ما يبدو أن العقاب لن ينالها”.
وأضاف: “على السلطات التركية التراجع عن قرارها وعدم المساهمة في ترسيخ الإفلات السعودي من العقاب بتسليم قضية خاشقجي إلى الأشخاص نفسهم المتورطين في مقتله”.
لكن رد الفعل الأقوى جاء من “خديجة جنكيز”، خطيبة “خاشقجي”، والتي أعلنت الطعن على القرار، قائلة: “سأقدم استئنافا للقرار بما يتوافق مع نظامنا القضائي”، مشددة على أن كفاحها من أجل العدالة لـ”خاشقجي” لم ينته بعد.
ولم يصدر أي تصريح رسمي من جانب السعودية بشأن الخطوة القضائية التركية، التي قد تحقق آمال الرياض في طي تلك الصفحة، ووقف أية ملاحقات قضائية بشأن ولي العهد السعودي، الأمير “محمد بن سلمان”.
تقارب محتمل
يمكن اعتبار القرار التركي، خطوة من جانب أنقرة للتقارب مع الرياض، لاسيما في ظل توجه تركي نحو إعادة تموضع إقليمي ودولي، يقوم على تصفير المشاكل، وإزالة التوتر مع السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل واليونان وأرمينيا.
ووفق الأكاديمي التركي “مهند حافظ أوغلو”، فإن القضية كانت أشبه بـ”عقدة المنشار” في انفتاح العلاقات السعودية-التركية”، مشددا في حديثه لـ”الحرة” على أن المنطقة الآن بحاجة لهذا التواصل، وأنه لا يمكن الإبقاء على حالة الجمود بين البلدين.
وتفيد مصادر تركية بأن المملكة اشترطت على تركيا إغلاق قضية محاكمة “خاشقجي” بشكل كامل من أجل تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين، بحسب “العربي الجديد”.
وفي ضوء إتمام تلك الخطوة، يرجح مدير “معهد إسطنبول للفكر”، باكير أتاجان، أن يكون هناك لقاء قريب بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”.
ويبدو أن “بن سلمان” يحاول استخدام زيارة “أردوغان” المرتقبة إلي الرياض، لنيل مكاسب أبرزها إغلاق قضية “خاشقجي”، خاصة أن ولي العهد السعودي يلقي باللوم على الرئيس التركي شخصيا، فيما يتعلق بإدخال أمريكا في القضية، وعدم إغلاق هذا الملف في الأيام الأولى لما بعد الجريمة، بحسب موقع “ميدل إيست آي” البريطاني.
ويرى المحلل السياسي السعودي “مبارك آل عاتي”، أن الخطوة التركية ستسهم في إذابة جزء من الجليد، الذي يعتري العلاقات السعودية التركية، وصولا إلى تحسين الأجواء، والتمهيد لخلق حالة من التوافق بين العاصمتين والإعداد الجيد لعقد لقاء قمة بين قيادتي البلدين.
محاكم أجنبية
القضية لم تنته بعد، بالنظر إلى وجود دعاوى أمام القضاء الأمريكي، ما زالت تنظر جريمة “خاشقجي”، وتقف وراءها منظمات حقوقية وإعلامية كبيرة.
وتقاضي “خديجة جنكيز” وهي مواطنة تركية، ومجموعة حقوقية باسم “الديمقراطية الآن في العالم العربي”، أسسها “خاشقجي” قبل وفاته، أكثر من 20 شخصا آخرين قانونيا، إضافة إلى ولي العهد السعودي.
وتهدف الدعوى إلى جعل محكمة أمريكية تحمل ولي العهد المسؤولية عن القتل والحصول على وثائق تكشف الحقيقة، بحسب صحيفة “واشنطن بوست”.
والعام الماضي، أكد تقرير للمخابرات الأمريكية، ضلوع “بن سلمان” في الجريمة، مرجحا أن الأمير “محمد” وافق على عملية لقتل “خاشقجي” أو القبض عليه.
كذلك تقيم منظمة “مراسلون بلا حدود” شكوى قضائية في ألمانيا تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد ولي العهد السعودي بهدف إدانته بالجريمة ذاتها.
ووفق مسؤول تركي، فإن “أنقرة ليس لها سيطرة على القضية المرفوعة فى أمريكا، ولم تناقش أو تتفاوض بشأن قضايا خارج تركيا مع السلطات السعودية، كما أن تركيا ليس لها أي اختصاص في قضايا المحاكم الأجنبية ضد ولي العهد السعودي”.
ويجادل محامو المدعين، بضرورة الاستماع إلى القضية في محكمة أمريكية، لأن الخطوات الحاسمة التي يُزعم أن المسؤولين السعوديين اتخذوها لجذب “خاشقجي”، الذي كان مقيمًا في ولاية فرجينيا، إلى تركيا، حدثت في الولايات المتحدة.
تظل القضية إذن مفتوحة على مصراعيها أمام القضاء الأمريكي، والألماني، بينما وحتى إشعار آخر، فإنها بصدد التواري خلف الستار في تركيا، بحثا عن تقارب حقيقي بين أنقرة والرياض، يمهد لمكاسب سياسية واقتصادية تفرضها تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وتغير أولويات الإدارة الأمريكية في المنطقة.