قضائنا قضاء مستقل يحكم بشرع الله وفق الأنظمة والقوانين” تلك الكذبة يرددها المحسوبين على السلطات السعودية والمقربين من دوائر الحكم والذباب الإلكتروني لتلميع صورة القضاء والقضاة ووضعهما في مقام التنزيه، بينما تكشف الأحداث أن منظومة القضاء برمتها تدار وفق هوى ولي العهد محمد بن سلمان، وتسخر للانتقام من خصومه ومعارضيه.

فقد حول ولي العهد المحكمة الجزائية المتخصصة إلى أداة بطش وتنكيل وسلاح إضافي يعاقب به المعارضين له بالداخل والخارج ويقمع خصومه السياسيين وذويهم إذا فشل في الوصول إليهم، حيث يحال إليها المعتقلين السياسيين والناشطين وأصحاب الرأي بزعم ارتكابهم جرائم “إرهاب” ويصدر بحقهم أحكاما قاسية طويلة الأمد وقد تصل حد الإعدام.

مؤخرا، أثيرت قضية المواطن الأميركي راكان نادر الدوسري (15 عاما) الذي كشفت منظمات حقوقية أن السلطات السعودية احتجزت خمسة من أقاربه هم زوجة جده وخالته وثلاثة من أعمامه، واحتُجز بعضهم في زنازين باردة دون بطانيات أو أسرة مناسبة، انتقاما من الدعوى القضائية التي رفعتها عائلته ضد الحكومة السعودية في الولايات المتحدة، ورفضت لاحقا.

وتعود الأحداث إلى رفع والد راكان رجل الأعمال السعودي نادر تركي الدوسري، دعوى قضائية في يونيو/حزيران 2020، في ولاية بنسلفانيا نيابة عن راكان، يتهم فيها ولي العهد السابق محمد بن نايف وكيانات سعودية أخرى بالفشل في الوفاء بعقد مضى عليه سنوات يتعلق بمشروع مصفاة في جزيرة سانت لوسيا الكاريبية، وشملت الدعوى بعد ذلك بن سلمان.

وهنا جاء دور المحكمة الجزائية المتخصصة التي أحال مكتب المدعي العام المعقلين الخمسة من عائلة راكان الدوسري إليها في 12 يوليو/تموز 2023، والمعنية بالنظر في قضايا الإرهاب، والتي أصدرت في السنوات الأخيرة عقوبات قاسية بشكل غير عادي على المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين وسط حملة قمع متجددة ضد المعارضة.

وذلك وفق تأكيدات المنظمات الحقوقية التي كشفت عن معاناة عائلة الدوسري، وهم “مبادرة الحرية” و”الديمقراطية في العالم العربي الآن” و “القسط لحقوق الإنسان”، والتي أفاد مدراءها بأن ما يحدث قمع عابر للحدود من قبل الحكومة السعودية وابتزاز مباشر لمواطن أميركي ووالده المقيم في أميركا، وانتقام من دعوى قضائية، وسوء استخدام للسلطة.

وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الجزائية المتخصصة، التي يحاكم بها اليوم غالب المعتقلين السياسيين وأصحاب الرأي والمعارضين السعوديين، ويصدر بحقهم أحكام جائرة، أنشئت في 2008 أي في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، بدعوى محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم متعلقة بالإرهاب والأمن الوطني، وبمزاعم أنها “هيئة قضائية شرعية”.

وتتكون المحاكم الجزائية من ثلاثة دوائر، وهم دوائر القصاص والحدود، دوائر الأحداث، الدوائر التعزيرية، على أن تتكون كل دائرة من ثلاثة قضاة، والأحكام الصادرة من المحكمة الجزائية نافذة، لا تقبل بتقديم الطعن أو الاستئناف ضدها، واستُخدمت منذ 2011 بصورة ممنهجة لمقاضاة الأشخاص بناءً على تهم مبهمة، وغالباً ما تساوي بين الأنشطة السياسية السلمية والجرائم المرتبطة بالإرهاب.

الأمين العام لحزب التجمع الوطني السعودي الدكتور عبدالله العودة، سبق وقال في بودكاست السعودية، إن المحكمة المتخصصة التي خلقها الاستبداد لتكون مثل المحاكم العسكرية في البلدان الأخرى، أو محاكم الطوارئ التي لا تحمل من كلمة “المحاكم” إلا اسمها، تخضع بالكامل لضغط السلطة التنفيذية وإجراءاتها وتطبق نظام مكافحة الإرهاب سيء السمعة.

 

ترهيب المعارضة

وكانت منظمة العفو الدولية، قد أكدت في فبراير/شباط 2020، أن المحكمة الجزائية المتخصصة استُخدمت في السعودية منذ 2011 لإسكات الأصوات المعارضة، موضحة أن من جملة الذين أصدرت المحكمة عقوبات شديدة عليهم صحفيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ونشطاء سياسيون، وكتّاب، ورجال الدين، ونشطاء حقوق المرأة.

واتهمت في تقرير لها بعنوان “تكميم الأفواه المعارضة: المحاكمات المسيّسة أمام المحكمة الجزائية المتخصصة” قضاة المحكمة الجزائية بأنهم يلجؤون على نطاق واسع إلى نظام جرائم الإرهاب، ونظام مكافحة جرائم المعلوماتية اللذين يتسمان بقسوة بالغة، وعقد محاكمات بالغة الجور، وإصدار أحكاماً بالسجن تصل مدتها إلى 30 عاماً، والعديد من أحكام الإعدام.

ووثقت العفو الدولية حالات 95 شخص – غالبيتهم العظمى من الرجال – حوكموا أمام المحكمة الجزائية المتخصصة بين 2011 و2019، ويضمون أفراداً عديدين حوكموا بتهم نابعة فقط من ممارستهم السلمية لحقوقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات أو الانضمام إليها والتجمّع.

وقالت إن الحكومة السعودية تستغل المحكمة الجزائية المتخصصة لإضفاء هالة خاطئة من المشروعية على إساءة استخدامها لنظام جرائم الإرهاب لإسكات صوت معارضيها؛ فكل مرحلة من مراحل العملية القضائية في هذه المحكمة مشوبة بانتهاكات حقوق الإنسان، بدءاً بالحرمان من حق الاستعانة بمحام، مروراً بالاعتقال بمعزل عن العالم الخارجي، وانتهاء بالإدانات المبنية حصراً على ما يسمى “باعترافات” تُنتزع تحت وطأة التعذيب.

 

أداة قمع

المنظمة ذاتها، تحدثت في تقرير لها في أكتوبر/تشرين الأول 2022، عن شن السعودية حملة قمعية غير مسبوقة ضد حرية التعبير، استهدفت مجتمع حقوق الإنسان، وطائفة واسعة ممن عبَّروا عن أي شكل من أشكال الانتقاد، موضحة أن من بين أدوات تلك الحملة القمعية “المحكمة الجزائية المتخصصة”، حيث استخدمت المحاكمات كأداة لتكميم المعارضة.

ووصفت عهد بن سلمان بأنه الأشد قتامة في السعودية بشأن حقوق الإنسان والحريات منذ توليه منصب ولاية العهد في المملكة، قائلة إنه منذ أن اعتلى سدة الحكم في 2015، شهدت المملكة حملة قمعية واسعة النطاق ضد حرية التعبير، بأدوات مختلفة منها تقديم المنتقدين لمحاكمات أمام المحكمة المتخصصة ومنع السفر.

وأوضحت المنظمة أن من بين الأدوات أيضا فرض قيود تعسفية على حقوقهم الأساسية، من قبيل تقييد حقهم في ممارسة نشاطهم السلمي، إلى جانب عمليات المراقبة الرقمية، واستهداف النشطاء والناشطات في الخارج عبر الفضاء الإلكتروني، التي ترعاها الدولة، إلى تفاقم انكماش المجال المدني في البلاد وإثارة جو من الخوف والقمع.

وذكرت أنه بحلول أواسط 2021، كان جميع المدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق النساء، والصحفيين المستقلين، والكتاب والكاتبات، والنشطاء والناشطات في البلاد تقريباً قد احتُجزوا واحتُجزن تعسفياً، أو قُدموا وقُدمن إلى محاكمات جائرة استغرقت وقتاً طويلاً – معظمها أمام المحكمة الجزائية المتخصصة– أو أُطلق سراحهم بشروط.

 

غير نزيهة

قناة DW الألمانية قالت إن المحكمة الجزائية المتخصصة في السعودية ليست مستقلة ولا نزيهة؛ لأن آلية اختيار القضاة بيد الملك سلمان عبد العزيز وابنه محمد فقط، مضيفة أنها تشعر بالجرأة على استخدام المحكمة الجزائية المتخصصة كأداة للقمع ومعاقبة أي شكل من أشكال التعبير عن الرأي.

وأكدت في تقرير لها في أغسطس/آب 2022، أن صعود بن سلمان للسلطة ترافق معه سيطرة كاملة على رئاسة أمن الدولة والنيابة العامة، موضحة أن هاتين الهيئتين مسؤولتان عن ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وذلك عبر ذراعهم القضائية التي تدعى المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض.

وأشارت القناة الألمانية، إلى أن بن سلمان يريد تأجيج الخوف داخل المجتمع السعودي من خلال أجهزة المراقبة الالكترونية، ويتعامل نظامه قبضة من حديد مع الآراء النقدية، معتمداً بذلك على قوانين صارمة كمكافحة الإرهاب الذي أصدره في 2017.

 

قضاة بن سلمان

منظمة الديمقراطية الآن في العالم العربي، كشفت أن القاضي عوض بن علي بن عائض آل ميشر الأحمري، الذي صدر أمر ملكي بتعيينه رئيسا للمحكمة الجزائية المتخصصة، في يونيو/حزيران 2022، متورط باحتجاز وتعذيب وانتزاع اعترافات قسرية من نشطاء حقوقيين سلميين خلال فترة عمله كمحقق بدائرة أمن الدولة في مكتب النيابة العامة من 2010 إلى 2022.

وأشارت في تقريرها في ديسمبر/كانون الأول 2022، إلى أن الأحمري أحد المقربين المخلصين لولي العهد، وأحد أعضاء الوفد المرافق للنائب العام السعودي إلى إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، والذي يبدو أنه تم إرساله لتنظيف الأدلة على اغتيال جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله في القنصلية السعودية.

وأكدت المنظمة أن الأحمري وعشرة محققين ومدعين عامين آخرين على الأقل شملهم القرار الملكي بالتعيين في المحكمة الجزائية المتخصصة كقضاة لا يمتلك العديد منهم الحد الأدنى من المؤهلات المنصوص عليها في القوانين السعودية لتولي المناصب الموكلة إليهم وفق المادة 31 من لائحة القضاء السعودي.

وأفادت بأن الأحمري والقضاة المعينون يرتبطون بعلاقات وثيقة بالديوان الملكي السعودي وبن سلمان، داعية إلى تحميل الجناة السعوديين، بمن فيهم القضاة، المسؤولية عن أدوارهم في تمكين قمع الدولة ضد المواطنين السعوديين بما في ذلك المدافعين عن حقوق الإنسان وقادة المجتمع المدني والإصلاحيين الديمقراطيين والأقليات الدينية.

وعقب تعيين الأحمري رئيسا للمحكمة الجزائية المتخصصة، زادت الأحكام القاسية الصادرة عنها، وجاءت في مدة أحكام السجن التي أصدرتها -وفق موقع ميدل إيست أي البريطاني-.

وبالرغم من الولاء الأعمى للقضاة لابن سلمان، إلا أن قمعه طالهم، حيث واجه عشر قضاة، ستة منهم قضاة بارزون سابقون في المحكمة الجزائية المتخصصة، وأربعة قضاة سابقون في المحكمة العليا بالمملكة، تهما بالخيانة، التي يعاقب عليها بالإعدام في السعودية، بجريمة أنهم لم يكونوا قساة بما فيه الكفاية في إصدار أحكام بالسجن -وفق صحيفة واشنطن بوست التي أشارت إلى أن هؤلاء القضاة ليس لديهم أيد نظيفة تماما.

وأوضحت أن القاضي عبد الله بن خالد اللحيدان، كان مسؤولا عن تهمة الإرهاب التي لا أساس لها ضد لجين الهذلول، الناشطة في مجال حقوق المرأة التي قادت الحملة من أجل تمكين المرأة من القيادة. ووجهت إليها تهمة “التحريض على تغيير نظام الحكم الأساسي” وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات وثمانية أشهر، وأفرج عنها مشروطا بعد ثلاث سنوات. والآن، يواجه القاضي الذي أصدر الحكم بحق الهذلول حكما محتملا بالإعدام لعدم تشديده”.

 

إدانة أممية

وتواجه المملكة السعودية إدانة أممية حول القوانين والمؤسسات القضائية التي تستخدمها بدعوى مكافحة الإرهاب، إذ انتقد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب، بن إيمرسون، بشكل متكرر المحكمة الجزائية المتخصصة – النظام القضائي السعودي لمكافحة الإرهاب – كمؤسسة جزئية مرتبطة بالحكومة تكون مسؤولة عن مقاضاة وإدانة الناشطين بسبب حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات والجرائم الدينية.

وقال في تقرير له عقب زيارة المملكة في 2017، إن المحكمة الجزائية المتخصصة تأسست في عام 2008 لمحاكمة المعتقلين المحتجزين فيما يتعلق بجرائم الإرهاب، ولكن منذ 2010 استخدمت بشكل متزايد لمقاضاة حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين؛ على الرغم من أن محاكماتها سرية إلا أن تقارير موثوقة تثبت أن المحاكمات غير عادلة.

واستنكر تعريف الإرهاب الفضفاض على نحو غير مقبول، وأدان استخدام السعودية نظام مكافحة الإرهاب لعام 2014 وغيرها من النصوص المتعلقة بالأمن الوطني ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، والكتاب، والمدونين، والصحفيين، وغيرهم من النقاد السلميين، مشيرا إلى تلقيه بلاغات بشأن انتهاكات الأصول القانونية في المحكمة الجزائية المتخصصة.

ومن بين الانتهاكات التي ذكرها المقرر الأممي، عدم وجود ضمانات لإصدار أوامر إحضار إلى المحكمة وإجراءات المحاكمات سراً أو في غياب المحامين أو في غياب المتهمين، بالإضافة إلى الاعتقالات التعسفية وانتهاك الحق في الاطلاع على التهمة وانتهاك الحق في الحصول على المشورة القانونية.

كما تتضمن بلاغات الانتهاكات التي تلقاها المقرر الأممي، عدم إجراء فحوصات طبية مستقلة وممارسة الاحتجاز مع منع الاتصال أو الاحتجاز السري وقبول أدلة تم الحصول عليها بالتعذيب انتهاكاً لالتزامات المملكة بموجب المادة 15 من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.

ودعا الخبير الأممي المملكة السعودية للتوقف عن استخدام أنظمة مكافحة الإرهاب ضد الأفراد الذين يمارسون حقوقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع بطريقة سلمية، لأن النظم السعودية بشأن الإرهاب لا تتوافق مع المعايير الدولية، داعيا إلى وضع حد لملاحقة الأشخاص لمجرد تعبيرهم عن آراء لا تدعو للعنف.

وفي 6 يونيو/حزيران 2018، رفع المقرر الأممي، تقريره إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وأوصى السلطات السعودية بإعادة النظر بشكل عاجل في تعريف الإرهاب الفضفاض والواسع جداً الوارد في قانون مكافحة الإرهاب، المستخدم ضد المعارضين السلميين ومنتقدي أعمال الدولة والنظام الحالي والأسرة الملكية.

وحث الحكومة السعودية على إنشاء آلية قانونية مستقلة لمراجعة جميع القضايا التي تنطوي على جرائم يُزعم أنها ارتكبت عن طريق الكام أو الكتابة، وتحديد جميع الأفراد الموجودين حالياً في السجون لممارستهم حقهم في حرية التعبير، أو حرية الفكر ، أو الضمير أو الدين أو الرأي، أو الحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات.

وبدورها، أيدت منظمة القسط الحقوقية توصية المقرر الأممي بإعادة النظر في تعريف الإرهاب وجعله يتماشى مع معايير حقوق الإنسان الدولية، معلنة دعمها إنشاء آلية مستقلة لمراجعة تشريعات الامن القومي ومراعاة الإجراءات القانونية الواجبة لإجراء مراجعة شاملة ومستقلة لجميع القضايا التي تنطوي على جرائم يُزعم أنها ارتكبت عن طريق الكام أو الكتابة.