بقلم/ مهنا الحبيل – كاتب عربي مستقل، ومدير المكتب الكندي للاستشارات الفكرية
حتى كتابة هذه السطور تثابر قناتا «العربية» و«سكاي نيوز» في تغطية تصريحات وأنشطة د. أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء السابق، وصاحب فكر النهضة الذي اعتمدت التجربة التركية عليه.
د. داوود أوغلو اليوم هو زعيم ومؤسس حزب المستقبل الجديد المعارض، بعد الانشقاق حزب العدالة، وقد أشارت بعض شخصيات حزب المستقبل إلى قلقها لطريقة التوظيف، وحرف تصريحات د. اوغلو من قبل إعلام محور أبوظبي.
ووفقاً لسياسة المحور وموقفه من التجربة التركية ذاتها، فإن هدف تغطية أنشطة د. أوغلو لا يبدو منها الرغبة في دعمه مطلقا، حيث تميل رهانات محور أبوظبي، إلى أن يكون الحكم في تركيا، مزيجاً من العهد السابق قبل التحول الديمقراطي 2002، وشخصيات عسكرية أكثر قرباً لفكر حلف الناتو وقوميته الأوروبية، ونادي واشنطن الجديد.
وهو النادي الذي راهن عليه محور أبو ظبي بعد دعمه للرئيس ترامب، لكنه يتفكك اليوم، وقد يعاد تشكيل التحالفات بعد الانتخابات الأميركية القادمة، فتفقد أبو ظبي والرياض حظوة ترامب، وإن استمرت مصالح واشنطن الكبرى، تستثمر تبرعهم المادي والسياسي.
وبالتالي لا يُمثل خيار حزب المستقبل الذي لا يُشكل في وضعه الحالي، أي تهديد انتخابي جدي لحزب العدالة خياراً مفضلاً، لمحور أبو ظبي، فالحزب وإن أطلق فكرته المدنية الوطنية، خارج أي تكييف ديني، غير أن فكرة الحداثة الإسلامية المرفوضة من المحور، لا تزال قريبة من فكر وأدبيات الحزب، ومؤسسه أبرز شخصيات فكر تركيا الحديثة فيها.
فما الهدف من تغطية أنشطة د. أوغلو إذن؟
يسعى محور أبو ظبي لتعجيل الصدام، أو المواجهة القانونية المتشددة، لحزب العدالة ضد حزب المستقبل، وبالتالي تُخلق من حالة الصدام، بين جناحي العدالة القديم، أجواء تساهم في دعم المعارضة اليسارية الراديكالية.
ولا تعتمد هذه الحسابات لمحور ابوظبي، أي قياس لموقف الحياة السياسية التركية من العلاقة مع العرب، كمحيط تعاون إقليمي مطلقاً، فقد كانت هذه الفرصة متاحة للغاية، في أوان الصعود الأول لحزب العدالة، قبل الانشقاق، وقبل الإغراق الأخير في استدعاء العثمانية الجديدة، كخطاب إعلامي واستقطاب سياسي، ومن رَفَضَ التعاون هي الرياض ذاتها، بعد أن تمكن قرار أبوظبي منها.
غير أن كل هذه الرهانات للرياض تقوم على تقدير نفسي محتقن، بأن تغيير نتائج الانتخابات وتداول السلطة في تركيا، سوف يساعدها على أن تقوّض الحضور الاستراتيجي للأتراك، وبالذات في حالة السعار والمواجهة مع قطر.
ويُذكر أن الرياض رفضت عرض وزير الخارجية التركي د. جاويش اوغلو قبل مدة، لتجاوز قضية الشهيد خاشقجي، مقابل صفقة تطبيع، واتضح بعد ذلك أن الرياض تراهن على ما بعد تصفية ملف الشهيد، مع أولياء الدم.
غير أن الخبر الذي لم يغطّيه محور أبوظبي كما يفعل، مع د. أوغلو هو إعلانه تأييد موقف الرئيس التركي، في الدعم العسكري والسياسي لاتفاق أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية، وبرر د. أوغلو دعمه كموقف أخلاقي.
لكن الحقيقة أيضاً هي أن هذا الملف بغض النظر عن مستقبله، بات ضمن المصالح القومية التركية، وخاصة في تأمين مساحتها البحرية، فضلاً عن الاتفاقات الاقتصادية الأخرى بين طرابلس وأنقرة.
إن هذا الموقف من قبل حزب المستقبل، أو حتى من المعارضة الراديكالية سيكون أشد وضوحاً في حالة قطر، فقطر دولة مستقرة استعادت علاقة التوازن مع واشنطن، بعد حالة الاضطراب القصيرة أول عهد ترامب، وبالتالي الاتفاق مع تركيا، هو فرصة حضور استراتيجي خليجي لأنقرة ضمن شراكة حددتها اتفاقات البلدين.
ولن تتخلى هذه الدول الإقليمية الكبرى كتركيا، عن مصالحها مع قطر، لإرضاء أوهام الرياض، التي كلما راهنت على وهم تبخر، واستيقظت على الواقع المر، والتاريخ القومي لتركيا الحديثة، اكتسب ممانعة جعلته يواجه تحديات عديدة وحروب موسمية محدودة، وظلت تركيا القومية هي تركيا، بثوب عثماني جديد، أو ثوب علماني عتيق، وبدلاً من أن تنسج الرياض طريق تصحيح ينقذ حدودها ووجودها، مستثمرة تصحيح العلاقة مع قطر، تواصل غزل الأوهام حتى سقوط البنيان.