تنذر سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بخسارة صمام أمان الدولة الأول، بعد أن طالت حملات الاعتقال التي تشنها السلطات بشكل مستمر، عددا من شيوخ القبائل والشعراء الذين يحظون بشعبية واسعة على خلفية انتقادات وجهوها إلى السلطة.
آخر تلك الانتهاكات، كشف عنها عبد الرحمن بن حميد، أمير قبيلة عتيبة (إحدى أكبر القبائل بالمملكة)، بعد أن ناشد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده، بإطلاق سراح شقيقه فيصل.
وكشف عبدالرحمن في مقطع فيديو، عن تجاهل الديوان الملكي عدة خطابات أرسلها بشأنه، وعن تلقيه تهديدات بالقتل. كما أغلقت السلطات حسابه في “تويتر” بعد نشر الفيديو، دون أن يعرف مصيره.
وكتب في الخطاب الذي قال إنه أرسله للملك وولي عهده: “لقد قدمت لسموكم عدة برقيات لإطلاق سراح أخي فيصل بن سلطان بن جهجاه بن حميد، والموضوع تغريدة، وأنتم يا سيدي أهل الخير والبركة وهؤلاء أبناؤكم أبناء الوطن”.
وعرض خلال المقطع البرقيات التي “أرسلها إلى الديوان الملكي ولم يتلق أي إجابة عنها”، مضيفا: “لم أترك وسيلة حتى طرقتها، وأطلب من الله ومنكم مواجهتكم أو إطلاق سراح أخي فيصل بن سلطان”.
بدوره، كشف الناشط والمعارض السعودي محمد العتيبي -أحد أفرد القبيلة، عبر حسابه بتويتر، أنه حاول الوصول لأي معلومة عن الشيخ “ابن حميد” لكنه لم يتوصل إلى أي شيء، مضيفا أن هذا الاستهتار من “ابن سلمان” يعتبر تصعيدا خطيرا وتحد لقبيلة عتيبة.
رفض التغريب
وبسؤال “الاستقلال” للعتيبي عن الأسباب التي تدفع ابن سلمان لاستعداء القبائل، أكد أن “المشروع التغريبي” الذي ينفذه ويقوده ولي العهد ببلاد الحرمين هو السبب الرئيس في ذلك، لأنه يخالف توجه هذه القبائل.
وقال: إن هوية المجتمع في بلاد الحرمين إسلامية محافظة، وأكبر شريحة للمحافظين هي القبائل كعتيبة وقحطان ومطير وسبيع والدواسر وشمر وعنزة وغامد وزهران وبني شهر وغيرها من القبائل التي ترفض مشروع “ابن سلمان”.
وأوضح “العتيبي” أنه “من هنا بدأ ابن سلمان باستعداء هذه القبائل لفرض الهوية الليبرالية على المجتمع مستخدما القوة ولغة التخوين لمن يعارض الثقافة الدخيلة على المجتمع كاتهامه بأنه إخواني أو صحوي وغيرها من التهم المستهلكة.
وأشار إلى أن المجتمع من الداخل غير راض تماما عما يفعله “ابن سلمان” ومنهم من تحدث وجرى اعتقاله كأمير قبيلة عتيبة “فيصل بن سلطان بن جهجاه بن حميد”.
وكتب ابن حميد عدة تغريدات تنتقد أنشطة هيئة الترفيه ولاقت قبولا كبيرا عند الشعب بحيث وصلت في الساعات الأولى إلى أكثر من 5000 ريتويت، وجرى اعتقاله على إثرها فورا خوفا من أن تتمرد قبيلته.
ولفت “العتيبي” إلى أن قبيلة عتيبة تعتبر من أكبر القبائل وأثقلها من حيث النفوذ في مفاصل الدولة وتمتلك تسعة أفواج عسكرية تحمل أسامي شيوخها.
وبين أن اعتقال أمير قبيلة عتيبة جلب تضامن عدد من الشيوخ والوجهاء من قبائل أخرى كالدويش من قبيلة مطير، وهذه القبيلة هي من قادت توحيد المملكة وعلاقتها بالأسرة المالكة كانت وطيدة إلى حين وصول ابن سلمان إلى دفة الحكم.
وأضاف “العتيبي”: “يظن ابن سلمان أن لديه القوة للسيطرة على ردة فعل هذه القبائل واستهجانها للثقافات الجديدة الدخيلة على المجتمع بالبطش، لكنه لا يعلم أنهم يتجنبون مواجهته فقط لحفظ دماء وأعراض المسلمين”، متوقعا أن كثرة قمع ابن سلمان للقبائل واستعدائه لهم ربما يقودهم لاستخدام العنف ضده.
العقوبة الأولى
ويُعد فيصل بن سلطان وجها بارزا من وجوه المجتمع السعودي، وكان كاتبا في صحيفة الجزيرة المحلية، وقد ساهم جده الأكبر الشيخ “جهجاه” وشقيق جده سلطان بن بجاد، في توحيد البلاد مع مؤسسها الملك عبد العزيز بن سعود ضمن ما عرف بحركة “إخوان من طاع الله”.
وحدث هذا قبل أن ينظم سلطان بن بجاد تمرد قبلي كبير عرف باسم “تمرد الإخوان” عام 1929 برفقة القائد العسكري لـ”إخوان من طاع الله” فيصل الدويش، أمير قبيلة مطير التي تعد من أكبر القبائل السعودية أيضا وانشق عن الملك المؤسس.
وقد اعتقلت السلطات السعودية “ابن سلطان” للمرة الأولى في أغسطس/آب 2018، في أعقاب كتابته تغريدات انتقد فيها الأوضاع المعيشية للسعوديين وقلة الوظائف وارتفاع الرسوم المفروضة على المواطنين، كما انتقد المؤسسات العامة بالمملكة كشركة الكهرباء والمياه، إلا أنه خرج مكذبا خبر اعتقاله عبر حسابه بتويتر.
لكن المراقبين أكدوا حينها تعرضه لضغوط لتكذيب الخبر، مشيرين إلى أن اعتقاله يأتي في أعقاب حملات القمع التي يشنها “ابن سلمان” ضد كل الأصوات المنتقدة للأزمات الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة في المملكة.
وقالت صفحة “معتقلي الرأي” المعنية بالتعريف بالمعتقلين: إن المباحث السعودية هي التي كتبت تغريدة تكذيب الاعتقال.
العقوبة الثانية
وما أثبت صحة ما ذهبت إليه صفحة “معتقلي الرأي”، اعتقال السلطات لشيخ قبيلة عتيبة للمرة الثانية في أكتوبر/تشرين أول الماضي، على خلفية كتابته سلسلة تغريدات مطولة ينتقد فيها ممارسات هيئة الترفيه التي يرأسها تركي آل الشيخ، وصرف الدولة مئات الملايين على الفعاليات الترفيهية في وقت تحول فيه السعوديون إلى شعب يعيش على القروض.
ونشرت صفحة “معتقلي الرأي” تغريدات ابن سلطان، التي قال فيها: إن الواضح أن القائمين على تنظيم فعاليات الترفيه “فيوزهم مضروبة حاصلين على فيز سياحية ولا نعلم من أي كوكب نزلوا.. فهموا الترفيه بالمقلوب والشقلوب والمنكوس والمعكوس والمغاير للدين وعادات المجتمع!”.
الشيخ فيصل بن سلطان بن جهجاه بن حميد سبق واعتقل العام الماضي (في أغسطس)، بعد انتقاده للظروف المعيشية والفقر، وقد أفرج عنه بعد فترة قصيرة، وقد نشرت حينها المباحث من حسابه تغريدة تنفي الخبر (كما حصل مع آخرين غيره).#اعتقال_شيخ_قبيلة_عتيبه
وجاء اعتقال “ابن سلطان” مع أكاديمين وشعراء بارزين، للسبب ذاته المتمثل في انتقاد جهود هيئة الترفيه.
وأفادت صفحة معتقلي الرأي بأن الاعتقال جاء بأمر رئيس الهيئة، مشيرة إلى أن السلطة لا تفرق بين “شيخ أو مغرد أو أمير أو شاعر” عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن الرأي، فهي تريد من الجميع التزام الصمت أو التكلم فقط بما يتناسب معها!.
بداية القمع
ترجع بداية استعداء “ابن سلمان” للقبائل السعودية بعد شهور قليلة من صعوده إلى سدة الحكم وتنصيبه وليا للعهد في 21 يونيو/حزيران 2017، إذ شن حملة اعتقالات واسعة في 10 سبتمبر/أيلول 2017، طالت قرابة الـ80 شخصا معظمهم من رجال الدين والمفكرين والأكاديمين والكتاب والقضاة والناشطين الاجتماعيين.
وأتبعها بحملة أخرى في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، شملت كبار مسؤولي الدولة والعائلة الحاكمة وشخصيات اقتصادية شهيرة بتهم الفساد.
وبعد يومين من الحملة، أفاد مصدر سعودي بأن حملة الاعتقالات طالت شخصيات جديدة، وشملت إجراءات حجز وتجميد حسابات شخصيات كبيرة، ومنع من السفر لشيوخ قبائل سعودية مثل مطير وعتيبة، وضباط كبار في الجيش والأمن -بحسب صحيفة عربي 21-.
وتوالت بعدها أخبار القمع ضد القبائل التي تعد عنصرا رئيسا من عناصر قيام الدولة واستمرارها، ما يؤكد أنها أصبحت في مرمى استهداف “ابن سلمان”، إذ سبق أن اعتقل أيضا سعود الدويش، رئيس شركة الاتصالات السعودية، ضمن حملة الريتز كارلتون، وهو الحفيد المباشر لفيصل الدويش -أمير قبيلة مطير المتمردة والمنشقة عن الملك عبد العزيز.
كما اعتقلت السلطات السعودية أحد أفراد أسرة آل حميد، وهي أسرة المشيخة في قبيلة “عتيبة”.
وأرجعت التقارير أسباب الاعتقالات الموجهة ضد شيوخ القبائل إلى عاملين رئيسين: الأول هو توجس ولي العهد من ولاء الشيوخ لأمراء آخرين داخل أسرته، والثاني محاولة بعض الزعامات القبلية، خصوصا التي تتحدر من عائلات لها جذور في التمرد القبلي القديم، أو من عائلات منافسة للأسرة الحاكمة، صنع زعامة شعبية.