بقلم/ عبد الله العودة
لم يكن القضاء في السعودية مستقلًا أبدًا في أي عصر، ولكن منذ مجيء ولي العهد الحالي، دمّر بشكل ممنهج ومستمر ومقصود ما تبقى من أي ورقة تستر عورة القضاء أو تلم شتاته، وتلك النوافذ والهوامش التي كانت محلًّا للاجتهاد القضائي أو مجالًا للاستقلال في المستقبل عمل على تفكيكها وتفتيتها، وتشريد ما بقي من منها.
في السعودية، اعتمد القضاة المدربون شرعيًا طوال عقود على الآليات غير الرسمية التي منحتهم استقلالية ونفوذًا نسبيًا رغم وجود إشكاليات إيديولوجية.
قل ما شئت عن تلك الآليات التاريخية غير الرسمية، ولكن كان لها دور فعّالٌ في جعل موقع المحاكم السعودية مرتبطةً بالقضاء وليس خارجه. كانت تلك الاستقلالية النسبية إلى حد كبير وليدة أساليب تقليدية في التعليم والتأهيل والتأصيل (مثل حلقات التعلّم) وفي التدريب العملي وهذا الذي خلق فرصة للاستقلال الاجتهادي القانوني والتقديرات القضائية. اجتمع التدريب والتعليم ليعطي القضاة شعورًا قويًا بالانتماء إلى هوية جماعية.
كان الحكّام السعوديون المتعاقبون يظهرون لهم احترامًا كبيرًا ويُحاذرون في التعاطي معه، ويرون في الغالب أن شرعية القضاء مهمة لشرعية النظام وبقاء صورة الاستقلال في نفوس الناس برغم وجود خروقات كبيرة في جانب التعاطي مع العمل السياسي والمدني.
بالطبع، لم تكن كل الأدوات غير رسمية بالكامل. كان للنظام القضائي أساسٌ قانوني مدوَّن. في العام 1926، أصدر الملك عبد العزيز آل سعود مرسومًا نص على جعل المدرسة الحنبلية (وهو المذهب السائد في نجد) التقليد الرسمي الذي يجب تطبيقه في المحاكم السعودية. عادةً يقاوم الحنبليون، وعدد كبير من الفقهاء الإسلاميين المدرَّبين على العقائد الكلاسيكية في شكل عام، المأسسة الشاملة.
والسبب هو أن الفقهاء ارتابوا تقليديًا في أن ذلك قد يمهّد الطريق أمام سيطرة الدولة (أو سواها من أشكال السيطرة الخارجية) على الفقه والدين.
لكن على مر السنين، عمدت الدولة السعودية إلى تعزيز العمل على إضفاء الطابع الرسمي بطرق أدّت تدريجيًا إلى تقليص دور القضاء. مؤخرًا وعلى يد ولي العهد الحالي، تسارعت وتيرة تقليص النفوذ القضائي عبر استخدام ثلاث أدوات رئيسية:
الأداة الأولى تمثّلت في الاعتماد على المراسيم والقرارات الملَكية والحكومية حول المسائل القانونية الجوهرية – والمراسيم والقرارات عبارة عن تشريعات مدوَّنة تؤدّي إلى تقلُّص المساحة المخصّصة للتفكير المستقل التقليدي المعروف بالاجتهاد، الذي كان يمارسه القضاة. وفي الآونة الأخيرة، تحوّل سيل المراسيم المتقطّع إلى تدفّق دائم؛ ويخشى بعض القضاة أن يصبح فيضانًا في وقت قريب حسبما تحدث إليّ بعضهم.
الأداة الثانية تمثّلت في تشكيل محاكم متخصّصة وهيئات شبه قضائية مستندة بالكامل إلى مراسيم حكومية وتوجيهات إجرائية رسمية أدّت تدريجيًا إلى تقويض اختصاص المحاكم العامة. لقد أصبحت هذه المجموعة من الهيكليات واسعة جدًا إلى درجة أن أحد القضاة في المحاكم العامة وصفها بـ”قضاء الظل”. لاحظ الكثير من القضاة أن الشؤون المتعلقة بالضرائب والتأمين والبنوك -مثلًا- أصبحت في عهدة لجان شبه قضائية. وباتت هذه اللجان تمتلك كلمة الفصل في مجال تخصّصها، وتُصدر آراء لم يعد بالإمكان استئنافها أمام المحاكم العامة. أما بالنسبة إلى القضاة في المحاكم العامة، فيعني هذا التغيير أن قضاء الظل خرج بالكامل إلى الضوء.
الأداة الثالثة -وهي في تقديري ثالثة الِأثافي والعنصر الأخطر في المعادلة- ممارسة السلطة التنفيذية إشرافًا أكبر على القطاع القضائي وتدخلها المباشر في العمل القضائي، وتصديرها لأوامر مباشرة لرؤساء المحاكم وممثليهم عبر وزارة العدل والجهات التنفيذية لإصدار أحكام على أناس وتبرئة آخرين بشكل فجّ.
في العام 2012، أصبح وزير العدل آنذاك محمد العيسى أول من يتسلّم أعلى منصب قضائي كرئيس مكلّف للمجلس الأعلى للقضاء، من دون التخلّي عن حقيبته الوزارية. وفي حين اعتبر الوزير وأنصاره أنه أمرٌ ضروري من أجل التعجيل في تطبيق الإصلاحات القانونية والقضائية، أبدى بعض القضاة امتعاضهم من تضارب المصالح المتأتّي من تسلّم العيسى المنصبَين في الوقت نفسه.
واعترضوا أيضًا على استخدامه لسلطته القوية من أجل إدارة مختلف المسائل المتعلقة بالشؤون القضائية وصولًا إلى التفاصيل الصغيرة، واعتبروا أن سلوكه ثقيل الوطأة.
وضمن أهم أوجه التدخّل القضائي هو مسلسل الإعدامات والأحكام المسيسة على ناشطات وناشطين ومثقفين وأكاديميين وعلماء مقابل تبرئة رؤوس الفساد السياسي والإداري والمالي في البلاد والمنخرطين في جرائم دولية معروفة ومحل اعتراف سلطات استخباراتية وعدلية دولية كثيرة مثل قضية الصحفي الأستاذ جمال خاشقجي -رحمه الله-.
لأجل ذلك كله، يمكن أن أقول بكل وضوح أن مؤسسة القضاء في السعودية يتم تدميرها بشكل كامل والعبث بها بشكل فجّ ومباشر.