قررت سلطات آل سعود زيادة صادراتها النفطية بـ600 ألف برميل يوميا الشهر المقبل لتصل إلى 10,6 ملايين برميل وهو معدل قياسي، في إصرار على المضي في حرب نفطية تعد المملكة الخاسر الأكبر منها.
ويستهجن مراقبون إصرار ولي العهد محمد بن سلمان على سياساته المتهورة وتكبيد المملكة خسائر يومية تتجاوز 250 مليون دولار يوميا من عائداتها النفطية.
وتصدّر المملكة نحو سبعة ملايين برميل يوميا، ما يعني انها ستضخ 3,6 ملايين برميل إضافية في أسواق النفط المشبعة أصلا بفعل التراجع الكبير على الطلب مع اتخاذ دول عديدة إجراءات لمكافحة فيروس كورونا المستجد بينها فرض حظر تجول ووقف حركة الملاحة الجوية.
قال مصدر مسؤول في وزارة الطاقة حسب ما نقلت عنه وكالة الأنباء الحكومية إنّ أحد أسباب الزيادة هو “انخفاض الطلب المحلي على مشتقات البترول، جراء انخفاض حركة النقل بسبب الإجراءات الاحترازية المُتخذة لمواجهة انتشار فيروس كورونا”.
وأضاف ان الزيادة هي أيضا نتيجة “إحلال الغاز الطبيعي المنتج من حقل الفاضلي، محل البترول، الذي كان يُستهلك لغرض إنتاج الكهرباء”.
وكانت المملكة أعلنت قبل نحو اسبوعين نيتها استخدام الغاز المنتج من معمل غاز الفاضلي للاستعاضة “عن حوالي 250 ألف برميل في اليوم من الاستهلاك المحلي من الزيت”، أي النفط.
وجاء ذلك بعدما أعلنت المملكة انّها ستزيد انتاجها اليومي من الخام بإضافة 2,5 مليون برميل نفط يوميا بهدف رفع الانتاج إلى 12,3 مليون برميل في نيسان/ابريل.
كما تراجعت المملكة عن خطط لزيادة طاقتها الانتاجية القصوى في ظل انخفاض الطلب على النفط في دول منظمة الدول المصدّرة “اوبك” على خلفية منافسة محتدمة مع النفط الأميركي ومصادر أخرى.
ودعت المملكة خلال اجتماع في فيينا الشهر الماضي إلى خفض إضافي بقدار 1,5 مليون برميل لمواجهة التراجع الكبير في الأسعار على خلفية انتشار فيروس كورونا المستجد، لكن روسيا رفضت ذلك.
وردا على الموقف الروسي، خفّض نظام آل سعود أسعار النفط المطروح للبيع لديها إلى أدنى مستوياتها في 20 عاما، في محاولة للاستحواذ على حصّة كبيرة في السوق، الأمر الذي أثار اضطرابات في أسواق الطاقة وحرب أسعار مستعرة.
ولم يكن التهديد الأخير الذي أعقبه انهيار اتفاق “أوبك+” بين المملكة وروسيا هو التهديد الأول، فقد سبق وأن هددت المملكة بإغراق أسعار النفط في 2016/11/4، وذلك ما دفع موسكو نحو التنسيق معها لمنع اضطراب الموازنة العامة الروسية التي تعتمد بنسبة تقارب 50% على صادرات الطاقة (النفط والغاز)، وتمخض ذلك عن اتفاق “أوبك+”، والذي ظل صامدا منذ توقيعه بنهاية 2016 حتى بداية مارس الحالي.
وكان اتفاق أوبك+ تعبيرا عن تحسّن غير مسبوق في العلاقات السعودية الروسية، وتتويجا لذلك كانت الزيارة الأولي لملك سعودي إلى روسيا في أكتوبر 2017، وفيها وعدت روسيا بتعاقدات ضخمة لبيع السلاح للمملكة، وتوطين ضخم للاستثمارات السعودية على الأراضي الروسية، ودعم جهود الروس في سورية.
ومن المرجح أن تلك الوعود كانت من بين أهم الدوافع لقبول موسكو بهذا الاتفاق. وعموما لم يتحقق من تلك الوعود إلا النزر اليسير، ويرجح أن ذلك لعدم رغبة المملكة في إغضاب حليفها الاستراتيجي، الولايات المتحدة.
وبين عشية وضحاها، استيقظ العالم على انهيار اتفاق أوبك+، بعد رفض روسيا اقتراحا لمنظمة أوبك بخفض إضافي في إنتاج النفط اليومي، بهدف إيقاف انخفاض الأسعار إثر تراجع الطلب العالمي مع انتشار فيروس كورونا، حيث أعلنت المملكة زيادة إنتاجها اليومي إلى 12.3 مليون برميل يوميا، أعقبها إعلان شركة “أرامكو” الحكومية أنها ستعمل على زيادة مستوى الطاقة الإنتاجية القصوى لتصل إلى 13 مليون برميل يوميا، وهو ما تسبب في تهاوي أسعار النفط إلى ما دون 30 دولارا للبرميل.
وانخفاض أسعار النفط ذات آثار سلبية على جميع الدول المصدرة للخام الأسود، لكن الأنظار تتجه نحو محاولة تقدير الخسائر السعودية والروسية باعتبارهما محوري الأزمة الراهنة، وإلى أي منهما أكثر خسارة؟
وفقاً لتقديرات الخبراء، تخسر روسيا ما بين 100-150 مليون دولار يوميا بسعر نفط يبلغ 40 دولارا، كما تحتاج روسيا إلى سعر 50 دولارا لتوازن جانبي موازنتها العامة، ودعم الملايين من الروس من غير الموظفين في الدولة.
وكنتيجة لعدم قدرة روسيا على الاقتراض الخارجي بسبب العقوبات الأميركية المتوالية، فإنه من المرجح ألا تستطيع روسيا تعويض الخسائر الناتجة عن انخفاض الأسعار، وهو ما سيتسبب مباشرة في تباطؤ الاقتصاد وخفض معدل النمو المتوقع للعام الحالي من 2% إلى صفر%، وربما قد يتحول إلى سالب.
وكنتيجة مباشرة للتصعيد، انهار الروبل الروسي في الأسواق العالمية، بالتزامن مع انهيار مؤشرات الأسهم الروسية، إذ اقترب السعر من مستويات أزمة 2014، وتجاوز 75 روبل للدولار الواحد، كما تجاوز مؤشر الاضطراب المالي للسوق الروسية حد 2.5 نقطة، بما يعني انتقال المنظومة المالية إلى حالة الأزمة.
وقالت مجلة “فوربس” العالمية، إن خسائر كبار رجال الأعمال والأثرياء الروس، بسبب التراجع الحاد في قيمة الروبل وتراجع أسهم الشركات الروسية في الأسواق العالمية، تجاوزت 8.8 مليارات دولار.
ورغم الخسائر الكبيرة والمتوقعة للاقتصاد الروسي، إلا أنه يعتمد بنسبة 50% فقط على عوائد الطاقة، مقارنة بالاقتصاد السعودي والذي يعتمد بصورة أساسية على الإيرادات النفطية.
وطبقا للتقرير العربي الموحد، فبينما كانت تهيمن الإيرادات البترولية على 92.6% من جملة الإيرادات العامة عام 2000، فلا تزال تشكل ما يقارب ثلثي تلك الإيرادات في عام 2018، رغم الانخفاض الكبير، والذي جاوز أكثر من 50% في أسعار النفط بداية من 2014.
ولتعويض ذلك اضطرت المملكة إلى فرض المزيد من الضرائب على المواطنين والمقيمين، الأمر الذي زاد من مساهمة الإيرادات الضريبية في إجمالي الإيرادات العامة من 4.9% فقط عام 2000 إلى أكثر من 30% عام 2018.
حققت المملكة فائضا في الموازنة قدر بنحو 4.4% عام 2000 وتزايد إلى أكثر من 18% عام 2005، وأصبح عجز الموازنة أمرا اعتياديا بعد ذلك، ليبلغ أقصاه عام 2015 بنسبة عجز بلغت أكثر من 103%، ثم تراجع بعد ذلك ليبلغ 82.9، 63.9، 33.1 في أعوام 2016،2017،2018 على الترتيب، وذلك بعد حزمة من زيادات في الضرائب وأسعار الوقود ورسوم الخدمات الحكومية.
كما أنه لا تزال صادرات الوقود تهيمن على النسبة الكبرى من جملة الصادرات السعودية، فبينما كانت تشكل عام 2000 حوالي 92.1% تناقصت إلى ما يقارب 80% عام 2017. ووفقا لتقديرات، فإن انخفاض أسعار النفط “يكلف المملكة خسارة قدرها 400 مليون دولار يوميا، أي نحو 150 مليارا في السنة”.
ونظرا للطبيعة الريعية المترسخة للاقتصاد السعودي، وفشل الدولة في تنويع إنتاجها رغم استهداف التنويع من خلال عشر خطط تنموية خلال الفترة 1970-2019، إلا أن فشلها تجاوز التنوع الاقتصادي إلى الفشل في تعزيز القدرات على مواجهة استنزاف الموارد الطبيعية، والتكيف مع التنافسية الدولية، وهي الثلاثية التي تعمل على تحقيق الاستقرار الاقتصادي على الأجلين المتوسط والطويل، وبالتالي فغياب الموارد النفطية لا يجد بديلا غير السحب من الاحتياطيات والاقتراض الخارجي.
وسجل صافي الأصول الخارجية لدى الحكومية انخفاضا متواليا، حيث تراجع من 737 مليار دولار في أغسطس 2014، إلى 529 مليارا في نهاية 2016، و493 مليار دولار في إبريل 2017، ثم تحسّن إلى 503 مليارات دولار بنهاية 2019، ويعود هذا التراجع إلى توجه الحكومة نحو تسييل بعض الأصول لتغطية العجز الضخم في الموازنة الناجم عن هبوط أسعار النفط منذ 2014.
أي أن الاحتياطي النقدي السعودي تناقص بما يزيد عن 30% خلال الخمس سنوات الأخيرة، رغم أن سعر النفط لم ينخفض دون 45 دولارا طوال تلك الفترة، وبالتالي إذا ما انخفضت الأسعار دون 30 دولارا فمن المتوقع أن تتبخر الاحتياطيات النقدية السعودية بالكامل خلال خمس سنوات أخرى.
بالإضافة إلى توالي إصدار المملكة للسندات والذي بدأته بمطلع 2019، وتصدّرت السعودية إجمالي إصدارات سوق السندات والصكوك الخليجية في النصف الأول من عام 2019 بقيمة بلغت 30.81 مليار دولار، أو 47% من إجمالي قيمة الإصدارات الخليجية، من خلال 15 إصداراً.
كما أن الموازنة العامة للمملكة تسدد أجور 2.7 مليون موظف حكومي، ونفقاتها هي المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي الذي يعاني من التباطؤ جراء الخطط والقرارات التقشفية السابقة. ولا شك أن المزيد من عجز الموازنة الناجم عن انخفاض أسعار النفط يعني مزيدا من التقشف، كما يعني المزيد من التحميل على المواطن الذي لم يعتد تلك الأمور من قبل.
ويعتبر اقتصاد المملكة نموذجا للاقتصاد الريعي، الذي تنتقل إليه الصدمات الخارجية بصورة أعمق وأسرع مقارنة بالاقتصادات ذات الكثافة الريعية الأقل.
ويعني ذلك أن تأثيرات انخفاض أسعار النفط ستشكل أزمات كبرى للاقتصاد السعودي، وبالتالي السعوديين الذين سيتحملون التبعات كاملة، لاسيما في ظل عدم قدرة المملكة على التملص من التزاماتها الخارجية، سواء من كلفة الحرب في اليمن، أو من كلفة مشترياتها للأسلحة الأميركية، أو للجنود الأميركان، في ظل تصاعد العداوة مع النظام الإيراني، أو حتي في رهانها على الأنظمة العسكرية المضادة للثورات في المنطقة.
وأدخل بن سلمان المملكة في مبارزة انتحارية مع الدب الروسي، ولا شك في أن كلا الجانبين خاسر، لكن الخسارة السعودية أكبر، والمواطن السعودي هو الذي سيدفع التكلفة كاملة، ولن يمكن التعويل على الإمارات في المساندة، لأنها من الطبيعي أن تواجه عثرات هي الأخرى.