حمد العجمي
خاص: من آثار عملية التغريب السياسي الواقع في المملكة العربية السعودية:
1. فقدان الشرعية السياسية واهتزاز هيبة الدولة:
تكتسب الشرعية السياسية أهميتها في كونها المبرر لقيام السلطة السياسية، ثم لأفعال الحكومة المنبثقة عنها اتجاه الأفراد والجماعات ضمن إطارها السياسي؛ فأي سُلطة مهما كانت قوتها المادية تحتاج لمبرر أخلاقي عند منعها أو سماحها بعمل ما. بعبارةٍ مختصرة، الشرعية السياسية تصنع السلطة السياسية، وتسوّغ تصرفاتها، وتسهر على ديمومتها.
فلا يمكن لأي نظام سياسي أن ينهض ويستقر من دون أن يتوافر له القدر الضروري من الشرعية التي تمنحه مبرر وجوده الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، وتجعله مطمئناً على سلطته، وقادراً على مواجهة إكراهات الواقع، والتواصل والتفاعل الإيجابي مع مجتمعه، من دون الحاجة إلى اعتماد وسائل الإكراه المادي، والتورط في ممارسات ضد حقوق الإنسان يمكن أن تفضي في النهاية إلى إطاحته.
إن الشرعية تمنح المبرر القانوني لأي إجراءات قد تتخذها السلطة، في أيٍّ من مجالات الدولة والمجتمع، ما يجعل هذه السلطة في علاقتها مع محيطها الداخلي والخارجي، محررة من إكراهات القهر، فتتحقق بذلك جدلية واعية بين النظام الحاكم ومواطنيه، ُوتُحل الخلافات والصراعات السياسية والاجتماعية بشكل سلمي، ومن ثم يستقر المجتمع بأكمله.
وعلى النقيض من ذلك، فإن النظام العاري تماماً من الشرعية، أو الذي يفتقر إلى بعض من مقوماتها، يكون فاقداً لمبررات وجوده وسلطته، الأمر الذي يجعله مضطراً، من أجل تعزيز مواقعه إلى اعتماد ممارسات سياسية يطبعها الاستبداد ويؤطرها العنف. ولأن القهر عندما يصبح هو الناظم الأساسي لعلاقة الدولة بالمجتمع يجعل من هذه الدولة دولة سلطوية لا يشق لها غبار، ولأن “اختبار القوة الحاسمة وحده لا يصنع الحق” كما كتب جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي”، فإن سلطة النظام في حالة فقدان الشرعية تصبح ملغومة من الداخل، ومع الوقت يتحول النظام نفسه إلى مجرد قشرة يابسة يسهل كسرها، وإزاحتها تماماً، فلا يعود صالحاً للحكم على أي نحو، ويصبح مصيره مفتوحاً على النهاية.
تحتاج أنظمة الحكم المختلفة، بغض النظر عن نوعها وتركيبها وأهدافها، إلى شرعية سياسية لتحكم وتشعر بالأمان وتستحوذ على قدر من ثقة الشعب بها، وذلك حتى يكون باستطاعتها القيام بواجباتها بانتظام.
وبالرغم من تنامي التوجه العالمي العام نحو الديمقراطية الغربية واعتماد الانتخابات الشعبية المباشرة مصدراً للشرعية السياسية، إلا أن للشرعية مصادر أخرى قد لا تكون بقوة المصدر الديمقراطي القائم على الانتخابات، إلا أنها مصادر يمكن الارتكاز إليها والاعتماد عليها ولو مرحليا.
فالنظام السعودي على سبيل المثال يستمد شرعيته من مصادر أربعة:
أولاً، الشرعية الإيديولوجية: حيث تلعب العقيدة الدينية دوراً مركزياً في تعزيز الشرعية السياسية في المملكة، وذلك ناجم عن قيام النظام السياسي بالتحالف مع المؤسسة الدينية بتبني نظام شرعي، يتعلق بآلية تنظيم المجتمع، وكيفية حراسة إيمانه. بحسب ”تيم نيبلوك”: لطالما قدم النظام نفسه حامياً للعقيدة الإسلامية، ومساعداً على نشر الإيمان في أجزاء أخرى من العالم. وقد ساهم في نشر هذه الإيديولوجيا الوفرة المالية التي تحققت بعد اكتشاف البترول، بالإضافة لوجود الحرمين الشريفين التي يقصدها كل المسلمين في العالم.
ثانياً، الشرعية التقليدية: يستند هذا المبدأ على أن الناس اعتادت على طريقة في الحكم متوارثة من الآباء والأجداد، لم يعرفوا غيرها، فانسجموا معها، كما هي دون قيد أو شرط. في السعودية، نجد بأن العادات والتقاليد تمدّ السلطة السياسية بحزمة من القوة اللامرئية لكنها محسوسة. فالقبائل تلعب دوراً موحداً ضد النزاعات رغم تراجع زخم القبيلة والقبائلية بعد تبدل دوائر المصالح في النظام الاقتصادي الجديد.
ثالثاً، الشرعية الكاريزمية أو (الشخصية): وفحواه أن السعودية تعتمد على مقام الملك كأب وكشخص قائد للبلاد والعباد، يستطيع النجاح بما تتمتع به شخصيته من مواصفات من لم شتات المجتمع تحت عباءته التي تتخذ العلاقة بينه كحاكم وبين المحكومين شكلاً أبوياً.
رابعاً، شرعية فلسفة الرفاه والسعادة: تنتج هذه الشرعية عن نظام اقتصادي اجتماعي رعوي يقدم خدمات توفر الرفاه والسعادة من خلال أداء الحكومة بزيادة الدور الخدمي للشعب، وينجم عن هذه الحكومة الخدمية الأجندة، والخالية من أي مضمون سياسي، الحق بالحكم عن طريق التزامات توفر للشعب السُبل الفضلى لتلبية حاجاته .
كيف عمل التغريب على اهتزاز هيبة وشرعية الدولة السعودية؟
لا شك أن عملية التغريب السياسي في الآونة الأخيرة أثرت بشكل كبير على شرعية مؤسسة الحكم في السعودية، فقد جرى تقليص وتهميش سلطة المؤسسات الدينية إلى حد بعيد بل على النقيض تم السعي لاعتقال العشرات من الدعاة والمصلحين ونشر مظاهر السفور والاختلاط وإقامة حفلات الغناء ما يقوض من دور تلك المؤسسات ويهز من مكانتها أمام العامة، حيث سكتت عن تلك الانتهاكات ولم تبادر إلى إعلان رفضها المباشر.
فبدا أن المملكة العربية السعودية تخلت عن ارتباطها الديني وأصبحت الصورة الذهنية لدى المواطن السعودي أن المملكة ساعية لاستبدال العلمانية بالإسلام، وهذا من شأنه حدوث فجوة كبيرة بين المواطن والدولة، لِمَا هو معلوم من عظيم ارتباط الشعب السعودي بدينه، وأن من مظاهر اعتزازه بدولته: ما لديه من قناعة بأنها قامت على حفظ هذا الدين في الداخل والدعوة إليه في الخارج، وانقلاب هذه القناعة سوف يُحْدِث في نفوس المواطنين انكسارا كبيرا وانصرافا عن دعم الدولة وانصياعه له. وبالتأكيد فإن ما يحدث حالة من الإحباط واضحة بدأت تتكون عند المواطنين ممن عاصروا الفترات الذهبية للمملكة، فبإجراءِ مقارنةٍ بسيطة بين الفترات السابقة والفترة الحالية يدرك المواطن أنه يعيش اليوم في ظل دولة غير مستقرة اقتصادياً ولا سياسياً، مهددة عسكرياً، فاقدةً لمنظومات الأمان الضرورية.
وعلى صعيد آخر فإن الإصلاحات الاقتصادية قد أصابت المواطن بكثير من الأعباء المالية التي لم يكن معتادًا عليها حيث أقرت الضرائب لأول مرة وجرى رفع أسعار الخدمات الأساسية. إضافة إلى سجن العديد من رجال الأعمال والاستيلاء على أموالهم، مما أوجد حالة من عدم الثقة لدى كثير من رجال الأعمال، وقد أصبح ملحوظًا خروج كثير من الشركات من سوق العمل ما يعد إخلالا بشرعية الرفاة والعقد الاجتماعي غير المكتوب بين النظام السعودي والمجتمع.
كما كان للأمن نصيب لا يستهان به، فأُضيفت 60 ألف وظيفة عسكرية جديدة، ناهيك عن صفقات أسلحة تصل إلى 60 مليار دولار، فرضتها ظروف المرحلة الراهنة التي تعيشها المنطقة العربية، وإلا فإن الأنظمة الملكية لا ترتكز عادة على قوة العسكر كما تفعل الجمهوريات لصون شرعيتها، قدر ارتكازها على قدرة النظام على رسم حالة استقرار داخل الممالك وتوليد اعتقاد بأن المؤسسة السياسية القائمة هي الأكثر ملائمة للمجتمع.
من شأن تلك التغيرات أن تؤثر على مصادر الشرعية الأساسية لدى النظام السعودي بفعل هذا التغريب السياسي للسلطة وتؤدي إلى اهتزازها.
ونستطيع القول إن: التجاهل التام للمشاعر الدينية لدى المجتمع السعودي الذي مازال محافظا، إضافة إلى تدهور الحالة الاقتصادية مع ازدياد حالة الوعي لدى الشباب، وتقليص دور الدين ونشر الحرية الفردية كل ذلك مآله هو اهتزاز الشرعية السياسية للنظام وما هي إلا سنوات معدودة وستبدأ حالة صراع مجتمعي سيكون له تأثير كبير على استقرار النظام السعودي.
الاستقرار السياسي وفقدان الشرعية:
يعد الاستقرار السياسي قضية حيوية في رخاء المجتمعات وغيابها يؤثر على كل فئات المجتمع.
كما يمكن أن يؤدي الفساد المالي والترف إلى عدم الاستقرار السياسي أيضا يقول ابن خلدون “إن أساس الفساد هو الولع بالحياة المترفة بين أفراد الجماعة الحاكمة”، ويعيد تأكيد ذلك بوضوح قائلا: “إنه طور الإسراف والتبذير، يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جم ع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه، مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه .. فيكون مخربًا لما كان سلفه يؤسسون، وهادمًا لما كانوا يبنون”
استقرار النظام إذًا مرهون بوجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة السياسية ومشروع المجتمع، بحيث يقوم كل جانب بــدوره ويؤديه على أتم وجه في عملية التشييد والبناء، فتتولد بالتالي الثقة والرضا المتبادلين بين السلطة والمجتمع. لأن قوة هذا الأخير تكمن في انسجامه السياسي مع النظام السياسي الذي يحكمه.
وبشكل مختصر يمكن توضيح الخصائص التي قد تتوافر كلها أو بعضها في إحدى حالات عدم الاستقرار السياسي في مجموعة من النقاط:-
– حالة سلبية يمر بها النظام السياسي تتجلى فيها صور من التغيير غير المنتظم أو المتوقع سواء على المستوى الوزاري أو على مستوى تغيير النظام السياسي ككل أو على مستوى التغيير المجتمعي حتى مع بقاء المستوى الحكومي أو مستوى النظام دون تغيير.
– حالة من عدم الرضا الاجتماعي بسبب من فقدان النظام للشرعية والفاعلية وهو ما يعكس عدم استقرار سياسي ساكن.
– من الممكن أن يكون عدم الاستقرار السياسي في مظاهر عدة مثل العنف الموجه نحو الدولة والمجتمع بصيغة الإرهاب أو في شكل الحرب الأهلية أو في صيغة ثورة وتمرد شعبي .
أغلب ظواهر عدم الاستقرار السياسي سواء في الدول المتقدمة أو في الدول النامية تنبع من مصادر رئيسة يمكن أن يحتوي النظام بعضها أو كلها لكن أهمها على الإطلاق فقدان الشرعية، الذي يدفع إلى حالة عدم الاستقرار السياسي بما له من تداعيات على مستقبل النظام ذاته.