د. عبد الله العودة
يبدو أن التحدي الثقافي أحياناً للنخب العربية المتشظية هو في أن تندمج مع مجتمعاتها وتعيش إلى جوارهم عوضاً عن أن تكون فوقهم، وأن تتحمل القريب قبل الغريب.
هناك ظاهرة غريبة ألحظها منذ زمن طويل من المهتمين بالعلوم والمعارف والثقافة. تلك الظاهرة هي حالة الهوس بالأشياء الغريبة والنادرة والعجيبة والبعيدة، وقد يصل ذلك الهوس لاعتبار جملة الغرائب والعجائب تلك هي الحالة العامة والشائعة والعيش معها والتعامل معها على أساس أنها هي الحالة الطبيعية.
هذا الهوس بهذا الشكل قد يدفع المثقف والمهتم والأديب إلى البعد عن الناس واهتماماتهم وشجونهم وأحلامهم؛ بل وربما يدفعه لتسخيف اهتمامات الناس والآخرين واعتبارها هامشية وتافهة.
هذا الشيء يجعل المثقف والمهتم والأديب بعيدًا عن الناس وعن مجال التأثير والاهتمام، ويجعله في الوقت ذاته يبرر كل ذلك بأنه ضريبة الثقافة العميقة وضريبة المعرفة!
المشهد الثقافي المرتبك حين يعجز عن التعرف على الناس والعيش معهم بعمق، يلد المثقف الذي يلجأ إلى اعتبار نفسه “شهيد الثقافة”، والمخلّص الذي نبذه قومه، والفيلسوف الذي أنكره الناس، والمجذوب الذي يهيم في الأرض في حالة من الوجد الروحي الثقافي!
هذا الفشل الثقافي والاجتماعي الذي يجد المثقف نفسه إزاءه لم يدفعه إلى حالة من النقد الذاتي ومراجعة المقولات الأدبية، ولكن عوضًا عن ذلك جعله يهرب إلى التذرع بأن هذا الخطاب الأدبي “أعمق” من أن يدركه “الناس”؛ ولذلك ترى كثيرًا من الأمثال والأبيات المتنوعة التي تكيل الشتائم للناس ولعدم وفائهم.. إلخ، في الوقت ذاته الذي يعد هذا الأديب نفسه من الناس، ولكنه ربما يحاول أن يكون بتلك الدرجة التي قال فيها المتنبي في سيف الدولة:
فإن تفق الأنام وأنت منهم.. فإن المسك بعض دم الغزال
المتنبي نفسه يبرر تلك العلاقات السياسية والاجتماعية الفاشلة بنبوغه وعظمته على عادته، من غير أن ينظر لنفسه وسلوكه؛ فهو يقول في بيتين من أكثر الأبيات العربية هوسًا غرائبيًا:
أنا تِرب الندى ورب القوافي.. وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله.. “غريب” كصالح في ثمود
ما مقامي بأرض نخلة إلا.. كمقام المسيح بين اليهود
هذا الإحساس الصلف بالبعد عن الناس عند المتنبي جعله يتحدث عن مقام المسيح بين”اليهود” لا بين “المسيحيين”؛ فهو يرى هؤلاء الناس على مستوى من قلة العلم وقلة الوفاء، يقارن بمثل قوم ثمود لصالح.
وفي مناسبةٍ أخرى لا يتورع المتنبي عن كيل أقذع الشتائم في كل الناس وكل من يرى فيقول:
أذم إلى هذا الزمان أهيله.. فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغدُ
وأكرمهم كلبٌ، وأبصرهم عمى.. وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قردُ
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدوًا له ما من صداقته بدُّ
وفي الوقت ذاته الذي يقدم فيه المتنبي هذا الحكم التعميمي الجائر على الناس، والحكم النرجسي الطاغي على نفسه؛ هو من أخبرنا أن “كل إناء بالذي فيه ينضح”، ولم يحدثنا المتنبي عن أن الأديب قد يغطي فشل نفسه عبر ذم الناس، ويقدم إحباطاته الشخصية عبر إيساع الناس شتمًا وذمًا.
في دراسة أكاديمية حول الاغتراب عند المعري وألبير كامو، يشير الباحث عبد القادر توزان إلى ظاهرة “الصعاليك” العربية القديمة وكيف أنها كانت حالة اغتراب صارخة حين ينفرد هذا الأديب الشجاع عن قبيلته ويعتزلهم بحثًا عن رزقه الخاص، ضاربًا بعلاقاته الاجتماعية ومجتمعه الخاص عرض الحائط؛ ولذلك كان الشنفرى يقول في لاميته الشهيرة المعروفة بلامية العرب:
أقيموا بني أمي صدورَ مَطِيكم.. فإني إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!
فقد حمت الحاجاتُ والليلُ مقمرٌ.. وشُدت لِطياتٍ مطايا وأرحُلُ
وفي الأرض مَنْأىً للكريم عن الأذى.. وفيها لمن خاف القِلى “مُتعزَّلُ”
لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ.. سَرَى راغبًا أو راهبًا وهو يعقلُ
ولي دونكم أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ.. وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ
هم الأهلُ. لا مستودع السرِّ ذائعٌ.. لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ
فالشنفرى هنا.. يجد له أهلًا بديلًا عن أهله ومجتمعًا خاصًا في الذئب والضبع والحيات؛ فقد استوحش من الناس واستأنس من هذه الوحوش، وهكذا يجد الشنفرى نفسه في أشد حالات الاغتراب حين يرفض كل هذا المجتمع وعاداته وقيمه وأسلوبه في العيش ويبحث لنفسه عن مجتمع صغير جدًا؛ من نفسه وتلك الوحوش التي ألفها وصار يطاردها ويرافقها في الفلوات.
وهكذا في كل عصر، يتجدد هذا الهوس الغرائبي عبر أدباء ومثقفين يجيدون شتم الناس واعتزالهم ووصمهم بكل الصفات السيئة؛ ليبرروا فيه فشلهم الاجتماعي وإخفاقهم الذاتي في التعامل مع هؤلاء الناس وتشكيل الروابط الطبيعية معهم، وعوضًا عن الاعتراف بالمشكلة ومحاولة علاجها يلجأ هذا الأديب والمثقف كل مرة لنفس الحيلة القديمة البالية في سب الناس واتهامهم بقلة الوعي والمعرفة وعدم احترام الأدب والعلم والوعي الذي يحمله!
كانت شخصية الأديب القدير محمود شاكر رحمه الله نموذجاً معاصراً لفكرة الاعتزال الأدبي الذي ينطوي على احتقار عام للجو الأدبي، ولذلك كتب أبوفهر كتابه الذي جعله مقدمة في كتاب المتنبي الذي ربما كان يشبهه، فكانت تلك المقدمة المكونة من ١٥٠ صفحة عبارة عن رصد عام للحالة الثقافية والأدبية في العالم العربي. وفي ثنايا تلك المقدمة الطويلة جداً يبرز ذلك النَفَس الاغترابي المحتقر للحالة الأدبية عموماً، التي تضمر تفوقاً ونرجسية لاتليق بأحد، لأن ذلك الإحساس يبني سياجاً صلباً بين أي أديب مثقف وبين الناس وصناعة التأثير فيهم والعمل على قواعد الوعي والاهتمام لديهم.
ثم أيضاً هنا نموذج معاصر آخر في شخصية المحقق الأديب إحسان عباس، الذي عبّر عن اغترابه بدءاً بعنوان سيرته الذاتية “غربة الراعي” التي تحدث فيها عن انفراده واغترابه الذاتي وعزلته الفكرية التي كانت ليبرالياً تشبه عزلة سيد قطب الشعورية إسلامياً التي تحدث عنها وساهمت في تجهيز عزلة وسياج يبعد المؤثرين عن المجتمع ويصنع تلك القوالب الزجاجية المخيفة.
الأديب والمثقف العربي لا يحتاج أن يكون مخلّصًا استثنائيًا غرائبيًا أوغريبًا كغربة الشنفرى والمعري وألبير كامو ومحمود شاكر وإحسان عباس وآخرين، فهذا أقرب إلى المرض الاجتماعي والنفسي منه إلى الإبداع والتميز والعبقرية؛ بل يحتاج الأديب والمثقف أن يعالج فشله الاجتماعي عبر مداواة هذا الهوس وليس تبريره، وحينها قد يستمع إليه الناس حينما يتكلم عنهم وإليهم.