بحسب صندوق النقد الدولي، يعتبر وباء “كورونا” أسوأ أزمة يمر بها الشرق الأوسط في العصر الحديث، لكن الأمر كان كارثيا بشكل خاص بالنسبة لولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” الحاكم الفعلي للمملكة والذي دفعه طموحه المثير لاستخدام أساليب قاسية أصبح بسببها معروفا لدى الملايين في جميع أنحاء العالم.
وفي أبريل/نيسان 2016، كشف “بن سلمان” عن ما سماه “رؤية 2030″، وهي استراتيجية لتنويع الاقتصاد السعودي على مدى 14 عاما.
وأعلن “بن سلمان” أنه بحلول عام 2020 ستكون المملكة قادرة على “العيش بدون نفط”. ووضعت الحكومة السعودية الخطة بمزيد من التفصيل على مدى الأشهر التي تلت ذلك، معتبرة أن عام 2020 هو العام الذي ستقضي فيه المملكة على عجز الموازنة، وترفع الإيرادات غير النفطية إلى 160 مليار دولار، وتكون مستعدة لاستضافة 18.75 مليون مسلم لأداء مناسك الحج والعمرة سنويا.
لكن الوباء أطاح بتلك الخطط. وارتفعت الإصابات الجديدة بفيروس “كورونا” في المملكة خلال الأسابيع الأخيرة، وتجاوزت الحالات المؤكدة حتى الآن 280 ألف إصابة، وهو عدد أكبر بكثير مما تم تسجيله في أي دولة عربية أخرى.
وتم تقليص موسم الحج بشكل كبير، واقتصر على ما لا يزيد عن 10 آلاف شخص يعيشون بالفعل في المملكة. وارتفع عجز الموازنة في المملكة، وتراجعت الشركات السعودية.
وغادر والد ولي العهد، الملك “سلمان”، المستشفى في 30 يوليو/تموز بعد التعافي من جراحة المرارة. ويبدو النقل الرسمي للسلطة إلى “بن سلمان” أقرب من أي وقت مضى، لكن الروح المعنوية في المملكة منخفضة.
وضع الأزمة
ولا يدع القائد الطموح أي أزمة تغرق سفينته، ولا يشتهر “بن سلمان” بشيء أكثر من طموحه الكبير. وخلال الأيام الأولى من الوباء، قام بزيادة ضريبة القيمة المضافة للمملكة من 5% إلى 15%، وخصصت الحكومة مليار دولار من مدفوعات التحفيز للشركات السعودية التي تكافح الانكماش الاقتصادي.
ووجّه “بن سلمان” صندوق الثروة السيادي في المملكة لاستغلال الأزمة بدخول المزيد من المفاوضات في أسواق الأسهم العالمية. حتى أنه ذهب إلى لعبة عض الأصابع بشأن أسعار النفط مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عندما رفضت روسيا احترام حدود الإنتاج المحددة في عام 2017، الأمرالذي أدى إلى انهيار أسعار النفط. وحتى مع عودة أسعار النفط إلى نحو 40 دولارا للبرميل، لم يبق للسعوديين سوى نصف الإيرادات التي يحتاجونها لتغطية النفقات.
ولا يزال بإمكان “بن سلمان” تقليص ميزانيته، لكن القيام بذلك سيعني التخلي عن اثنين من مشاريعه الشخصية أو تقليصها بشكل كبير.
وعندما بدأ التدخل العسكري السعودي في اليمن في عام 2015، كان “بن سلمان” المحرك الرئيسي للعملية، لكن سرعان ما أصبح واضحا أن القتال سيستمر أعواما وليس شهورا، فسمح ولي العهد للآخرين بتولي القيادة العامة.
ويستمر القتال الآن، مع عدم وجود فرصة معقولة للسعوديين لهزيمة الحوثيين، حلفاء إيران الذين يسيطرون على العاصمة اليمنية ومعظم الجزء الشمالي من البلاد.
ويعتبر الإنفاق العسكري للمملكة من بين أعلى المعدلات في العالم للفرد؛ حيث يقدر معهد “ستوكهولم” الدولي لأبحاث السلام أن 9% من الناتج المحلي الإجمالي السعودي يذهب إلى الجيش.
لكن إنهاء حرب دون خسائر كبيرة ليس سهلا على الإطلاق، كما أثبتت التجارب الأمريكية في فيتنام وأفغانستان بوضوح.
وأصدر السعوديون الكثير من الإشارات بأنهم على استعداد لعقد صفقة بشأن اليمن، لكن هذه الإشارات نفسها تغري الحوثيين ورعاتهم الإيرانيين لتحقيق النصر، أو بعض مظاهره.
وسوف تكون الهزيمة في اليمن بمثابة أزمة سمعة في الداخل لـ”بن سلمان”، لكنها ستكون أقل كارثية على المدى الطويل من الأزمة المالية التي يخاطر بها.
ولا يعد اليمن المشروع الوحيد الذي قد يضطر “بن سلمان” للتخلي عنه. وكجزء من رؤية 2030، خطط لبناء مدينة روبوتية مستقبلية في شمال غرب البلاد وأطلق عليها اسم “نيوم”، أي “مدينة المستقبل”، باعتبار أن “المستقبل الجديد” للبلاد عالي التقنية، ولا يعتمد على البتروكيماويات.
لكن المشروع يكلف مئات المليارات ولا يضمن تحصيل عائدات كافية، مع ذهاب العديد من الوظائف التي يخلقها إلى الروبوتات بدلا من الناس.
ويعني الاستمرار في المشروع تكاليف باهظة بالنسبة للمملكة، الأمر الذي يخبر السعوديين أن ولي العهد لا يرغب في شد حزامه فيما يطالب السعوديين بشد أحزمتهم.
تضحية شخصية
وتسبب انهيار النفط مع تفشي “كوفيد-19” في إعاقة خطط رؤية المملكة لعام 2030 للتحول الاقتصادي، لكنه وفر فرصة أيضا. فقد غادر البلاد أكثر من مليون عامل أجنبي في الأعوام الأخيرة، ومن المتوقع أن يغادر عدد أكبر منهم نتيجة للأزمة الحالية.
ولم يتمكن البعض من تحمل الضرائب والرسوم المرتفعة التي جاءت مع “رؤية 2030”. وجاء آخرون إلى السعودية كسائقين، وهو عمل تراجعت فرصه إلى حد ما عندما سمح “بن سلمان” للنساء السعوديات بالقيادة.
ومازال هناك المزيد من العمال يفكرون في الخروج بسبب الركود الاقتصادي والمخاطر الصحية التي رافقت الوباء.
وساهم فقدان هذا العدد الكبير من المستهلكين والعمال في الركود الاقتصادي السعودي على المدى القصير. لكن يمكن للحكومة استخدام غيابهم لزيادة فرص العمل المتاحة للسعوديين على المدى الطويل.
وكان تخفيض الخسائر السعودية في اليمن وتقليص مشاريع “رؤية 2030” باهظة الثمن مثل “نيوم” أسهل في ظل المنظومة القديمة لصنع القرار في السعودية. وكانت لجنة من كبار الأمراء (الذين كانوا في نهاية المطاف صانعي القرار في العقود التي سبقت وصول الملك “سلمان” إلى السلطة في عام 2015) قادرة على إقناع أي أمير قوي بتقليص أجندته الشخصية.
ولكن مع انحصار اتخاذ القرار الآن في يد شخصين فقط، وهما “بن سلمان” ووالده الملك، فإن القيود السابقة لم تعد تعمل.
وهنا يجب أن يأتي ضبط النفس، والرغبة في إعادة النظر في السياسات التي استثمر “بن سلمان” سمعته فيها، من شخص ولي العهد نفسه.
وبالنظر إلى سوابقه في الحكم، كما هو الحال في مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، سيتعين على “بن سلمان” أن يحفر عميقا ليجد هذا النوع من الفضيلة.
ويجب على ولي العهد أن يقوم بتضحية أخيرة وشخصية للغاية من أجل قائمة المهام المتعلقة بمواجهة آثار “كوفيد-19”. ولن يمنحه ذلك أي فائدة اقتصادية فورية، ولكنه قد يساعده في الحفاظ على أهم علاقة استراتيجية لبلاده، وهي العلاقة مع الولايات المتحدة.
وطور “بن سلمان” علاقات شخصية مع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” وصهره “جاريد كوشنر”. وأثمر هذا التقارب نتائج إيجابية لصالح ولي العهد، حيث دعمت إدارة “ترامب” مناورته داخل العائلة المالكة لإقصاء سلفه الأمير “محمد بن نايف”، الذي كان المفضل لدى الإدارات الأمريكية السابقة. ثم قام “ترامب” في وقت لاحق بحماية “بن سلمان” من تبعات مقتل “خاشقجي”.
لكن العلاقة بين عائلة “ترامب” وولي العهد جاءت على حساب العلاقة الرسمية بين السعودية والولايات المتحدة.
كما دخلت السعودية في خضم الحروب السياسية الحزبية للولايات المتحدة. وأصبح الديمقراطيون، الذين يشكون في دوافع “ترامب” ويتذكرون العداء الذي أظهره بعض القادة السعوديين للرئيس “باراك أوباما”، منتقدين بشدة لهذه العلاقة.
ويعارض أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيون الآن مبيعات الأسلحة إلى الرياض وينتقدون السياسة السعودية في اليمن.
ولم تكن السعودية تحظى بشعبية على الإطلاق بين الجمهور الأمريكي، لكن كلا من الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين عملوا على الحفاظ على العلاقة على مستوى النخبة.
وأصبح قبول النخبة من الحزبين لتلك العلاقة في خطر الآن. ويحتاج السعوديون للإشارة بطريقة فعالة إلى بعدهم عن إدارة “ترامب” إذا كانوا يريدون مد الجسور مرة أخرى مع إدارة ديمقراطية مقبلة.