بقلم: د. يقظان – كاتب وأكاديمي ومترجم لبناني

تحاول السعودية أن تستثمر في الجغرافيا السياسية، وتؤثر في الأحداث من خلال حركة دبلوماسية ناشطة محفوفة بالمخاطر، والمخاطر ليست مثل التقلبات، فالأولى تنطوي على احتمال خسارة كل شيء، مقارنة مع أحداث 1973، انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، وحرب أكتوبر، وأزمة أسعار النفط والتحوّلات التي تلت.

الاعتقاد السائد أن المملكة تمثل اليوم هذا التشابك الاقتصادي الإقليمي والدولي الأوسع، ما يشير إلى جملةٍ من الاستثمارات، وزادت، بحلول الوقت الذي دخلت فيها الدبّابات الروسية إلى أوكرانيا، في وقت كان الهدوء النسبي يعمّ العالم.

الذين يمكنهم التعامل مع المخاطر الجيوسياسية هم الأفضل في تحقيق عوائد مستقرّة وطويلة الأجل، وأولئك الذين لا يأخذونها في الاعتبار، قد يواجهون تقلّبات مؤقتة، ولكنهم قد يخسرون في الواقع جميع عائداتهم مع تفاقم النزاعات التجارية، وهذه امتداد للنزاعات السياسية بوسائل أخرى.

التحدّي الذي يواجه السعوديين امتلاك غريزة المواجهة في مشاريع تتشابك فيها العلاقات الدولية. وفي معظم الحالات، تحتاج المملكة لتأكيد أن لديها نظرات كاملة إلى أوضاع العالم في السياسة والتاريخ.

لم يعد الأمر محصوراً في خانة “التطبيع” مع هذه الدولة أو تلك، بل بمدى استعداد الدول المعنيّة خصوصاً في الإقليم للالتقاء على مفهوم مستقبلي لعلاقات قائمة على المصالح المتبادلة والتعاون.

الوضع الجيوسياسي في المملكة جزء من هذا التقييم للاستثمار على خطوط معقّدة، لا تساعدها على تحديد مدى الاستدامة لتعميم الفوائد على قاعدة العودة إلى خريطة الاستقرار، وهي تدخل عصر ما بعد النفط.

وتبني مدناً مستقبلية ومنتجعات سياحية على طول البحر الأحمر ومدناً ترفيهية ضخمة، وتسعى في الدخول إلى ساحة الدورات الرياضية العالمية، ومعرض إكسبو، ومن خلال إنشاء عقد اجتماعي مع الشباب، تعزّزه في تصوّر ثقافي غير أيديولوجي مع باريس ولندن.

لكن واشنطن تبقي الممر الرئيسي لجهود أوسع للتفوّق في تجديد الدور، بما يتجاوز دورها النفطي. لذلك هي تتصرف بتلك الاحترازية بخصوص ما يتردّد عن مشروع التطبيع مع إسرائيل، وما يزال الموقف الأميركي يشوبه الغموض من حيث المبدأ، والحاجة الى تغيير في مسارات إسرائيل الاستيطانية وتصرّفاتها العدائية.

وترتيب حالة من العنف منخفضة بحقّ الفلسطينيين، وفق ما تتوخّاه السعودية من أهداف سياسية تخدم حلّ الدولتين، قبل الاعتراف بإسرائيل (نفى منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الابيض جون كيربي وجود إطار عمل متفق عليه).

هذا بخلاف ما أكّدته أوساط أخرى من “أن واشنطن والرياض اتفقتا على البنود الأساسية لاتفاق سلام مقابل شروط”، لا سيما بعد رحلات مكوكيّة لمستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى المملكة لمعالجة ملف الضمانات الأميركية الأمنية مقابل حمل الرياض على تقييّد علاقاتها المتنامية مع الصين وروسيا، وعدم السماح للصين ببناء قواعد عسكرية على أراضيها، أو الحدّ من استخدام التكنولوجيا الصينية، أو التعامل باليوان الصيني في صفقات النفط ضمن مجموعة بريكس”.

تظهر السعودية اهتماماً “منخفضاً” في التوصل إلى اتفاق تطبيع مع إسرائيل، ربطاً بشروط مختلفة منها الحصول من الولايات المتحدة على دعم لبرنامج نووي مدني، والحصول على أسلحة نوعيّة.

ولا تبدي استعداداً لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل تنسحب على مجالات عديدة أخرى ستكون مكلفة، وتحتاج إلى “استدارة” والتزامات كبيرة من إسرائيل تجاه الفلسطينيين.

المطالب السعودية من إسرائيل (“تشمل حظراً على التوسع الاستيطاني، وتعهداً بعدم ضم الضفة الغربية التي احتلتها اسرائيل العام 1967، ويريدها الفلسطينيون قلب دولتهم المستقلة، وضمان أكيد لقدس غير مقسمّة”،… توماس فريدمان).

لم يحسم بعد حجم الثمن الذي سيُدفع لجذب السعوديين من أجل احتواء إيران وعزل روسيا في حربها على أوكرانيا، وإحباط جهود الصين للعب دور في أي تسوية سلمية في المنطقة.

في المقابل، لم يتضح حصول أميركا على تأكيدات من الرياض أنها ستنأى بنفسها اقتصادياً وعسكرياً عن الصين، حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين 116 مليار دولار 2022، وتريد السعودية استثماراتٍ تتجاوز قطاع النفط والتكرير والاتصالات إلى طلب منصّات في الصناعات والإنترنت والألعاب السياحية، وإنشاء منشآت ثابتة لمعالجة الليثيوم، وتعزيز دورها في إنتاج السيارات الكهربائية (إنتاج 500 ألف سيارة سنوياً في عام 2030).

وجاء اتفاق الصين بين الرياض وطهران لوجود مصلحة مشتركة بالتعايش وعدم المواجهة، للحفاظ على أمنها الداخلي والإقليمي، نتيجة تخلف أميركا وقت الحاجة.

ولكنّ إسرائيل لن تقبل بأي “تنازلات” في الضفة الغربية، وهناك إجماع بين جميع الأحزاب اليمينية على عدم الانسحاب أو تجميد الاستيطان في الضفة الغربية، في إشارة إلى التعقيدات التي قد تفرضها أي صفقة أميركية على حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة.

تغامر السعودية في الرهان على ماهيات غير مستقلة، من نوع التوقيع على آلية دفاع مشتركة تجمع الثلاثي ضد التهديدات المشتركة والمحتملة والمستقبلية. صفقة اقتضائية، قد تقدّم كل الهدايا لرئيس أميركي نجاحه غير مضمون، وعرضة للتغيرات السياسية في واشنطن.

وبانتظار ما ستحمله زيارة نتنياهو البيت الأبيض، تعمّ الحيرة من العلاقات مع إيران منذ وصول بايدن الديمقراطي إلى الرئاسة خلفا لترامب الذي سحب بلاده من الاتفاق النووي.

مناخ تشاؤمي لم تبدّده زيارة وزير الخارجية الايراني، حسين أمير عبد اللهيان المملكة، لا بل عزّزت حاسة إحياء النووي، واصطفافات الممانعة، وتوجّت بمفاوضات الدوحة إطلاق محتجزين أميركيين مقابل الإفراج عن عشرة مليارات دولار، ما يعكس الخوف الأميركي من إيران ومن موقفها من إسرائيل، وإذا ما استطاعت مستقبلاً أن تحافظ على علاقة طيبة مع دول الجوار.