صدفة صحفية كاشفة”.. بهذه العبارة، وصف الباحث المتخصص في السياسات الدولية بجامعة نانيانج التقنية في سنغافورة، “جيمس دورسي”، تزامن نشر حوارين، أحدهما لولي العهد السعودي، “محمد بن سلمان”، والآخر لـ “يحيى ستاكوف”، الرئيس المنتخب حديثا لجمعية “نهضة العلماء” الإندونيسية، مشيرا إلى أن المقارنة بين الحوارين تظهر بدقة رؤيتين متعارضتين تمامًا لـ”الإسلام المعتدل”.
جاء ذلك بعد نشر متزامن لحوار أجراه “بن سلمان” مع مجلة “أتلانتيك” الأمريكية، وآخر أجراه “ستاكوف” مع مجلة “كومباس” الإندونيسية، يوم الخميس الماضي.
وذكر “دورسي”، في تحليل نشرته مجلة “أوراسيا ريفيو” السبت، أن الحوارين أظهرا تباينا واضحا في وقت تكافح فيه القوى الإسلامية الكبرى لتحديد مفاهيم إيمانها في القرن الحادي والعشرين، بين رؤية تقوم على بقاء الاستبداد وأخرى تحاول تقديم تصورات متواكبة مع حضارة المستقبل والنظام العالمي الجديد، الآخذ في التشكل.
واعتبر المحلل الأمريكي أن التباين بين رؤيتي “بن سلمان” و”ستاكوف” شبيه بذلك التباين بين روسيا والعالم الديمقراطي، الذي جسده غزو أوكرانيا.
وأضاف أن جوهر الخلاف بين رؤيتي الزعيمين المسلمين يكمن حول ما إذا كان الإسلام بحاجة إلى إصلاح أم أن المسلمين بحاجة إلى العودة إلى “أصول” دينهم ليس أكثر، إضافة إلى تحديد من يملك سلطة تفسير الدين أو إعادة تفسيره، وما الذي يمثل الحكم الإسلامي السليم.
ويرى “دورسي” أن حوار “بن سلمان” لم يترك فيه ولي العهد السعودي أدنى شك في أن رؤيته قائمة على احتكار “سلطة تفسير الإسلام”، مؤكدا أن ولي العهد “عازم على إخضاع المؤسسة الدينية في المملكة لإرادته”.
ولفت إلى أن “المعيار” الذي حدده “بن سلمان” للاعتدال هو مفهوم المستبدين القائم على “الطاعة المطلقة للحاكم”، الذي هو “ولي الأمر” في الشريعة الإسلامية.
ونوه المحلل الأمريكي إلى تأكيد “بن سلمان”، في حواره، على أن “المملكة العربية السعودية تقوم على ملكية مطلقة”، وأنه بصفته ولي العهد سيحافظ على هذا النظام، لأن التنكر له سيكون بمثابة “خيانة” للسعوديين الذين ارتضوه، قائلا: “لا يمكنني القيام بانقلاب ضد 14 مليون مواطن”.
وشدد”بن سلمان”، في الوقت ذاته، على أنه لا يستطيع تغيير القواعد المنصوص عليها في القرآن، والتي يُنظر إليها على أنها كلام الله، في محاولة لإعطاء إصلاحاته الاجتماعية مسحة دينية تتمشى مع التقاليد السائد في السعودية، حسبما يرى “دورسي”.
وهنا يستشهد المحلل الأمريكي بتصريح أدلى به الباحث في شؤون الشرق الأوسط “برنارد هيكل” لمجلة “أتلانتيك”، تعليقا على حوار “بن سلمان”، معتبرا أن ولي العهد السعودي يدشن عملية قطيعة تدريجية مع التقاليد السائدة في المملكة “لكنه يفعل ذلك بطريقة إسلامية”.
ويستند “بن سلمان” في هكذا رؤية إلى أن “القليل جدًا من الأشياء يمكن إصلاحها بشكل لا خلاف عليه في الإسلام”، وهو ما يجعله صاحب الصلاحية في تقرير ما هو في مصلحة المجتمع المسلم، و”إذا كان ذلك يعني فتح دور السينما، والسماح للسياح أو النساء بارتياد شواطئ البحر الأحمر.. فليكن”.
ويرى “دورسي” أن “بن سلمان” أدخل تغييرات “اجتماعية وليست دينية” على التقاليد السائدة، التي كانت قبلية وليست دينية في الأصل، حتى لو كانت مغلفة دينياً، في إشارة إلى أن رؤية ولي العهد السعودي لا تصل إلى عمق مفهوم الإصلاح أو الاعتدال الديني.
واعتبر “دورسي” رفض “بن سلمان” لمصطلح “الإسلام المعتدل” علامة واضحة على رؤيته السلطوية.
في المقابل، يشير المحلل الأمريكي إلى آراء “ستاكوف” التي تعبر عن أفكار جمعية “نهضة العلماء” الإندونيسية، التي تنادي بـ”إعادة صياغة” الإسلام لجعل مفاهيمه القانونية وفلسفته متماشية مع القرن الحادي والعشرين.
وقد تنطوي إعادة السياق تلك على مراجعة عناصر تجاوزها الزمن من الفقه الإسلامي، حسب تعبير “دورسي”، وتشمل مفاهيم مثل: “العبودية”، التي تم إلغاؤها في القوانين المدنية بجميع أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك مفاهيم “الكفار” و”الذميين” من أهل الكتاب (اليهود والمسيحيين)، الذين يتمتعون بالحماية لكن لهم مكانة من الدرجة الثانية بموجب أحكام فقة الشريعة.
وتقول “نهضة العلماء”، إنها بدأت في “إعادة الصياغة” الإسلامية عام 2019 عندما أعلن تجمع يضم 20 ألف عالم إسلامي أن المفهوم القانوني للذمي قد “عفا عليه الزمن ولم يعد صالحا العمل به بموجب الشريعة الإسلامية” حسبما نقله “دورسي”، لافتا إلى استبدال هؤلاء العلماء لمصطلح الذمي بمصطلح المواطن؛ للتأكيد على أن المسلمين وغير المسلمين متساوون أمام القانون.
كما نوه المحلل الأمريكي إلى أن “ستاكوف” وصف، في حواره، التعاليم الدينية لـ”نهضة العلماء” بأنها “الإسلام الإنساني”، الذي تعتبره الجماعة بديلا للمفاهيم الأقل تطورًا وتسامحًا التي تروج لها ممالك مثل السعودية والإمارات..
ويرى “دورسي” أن ما يميز أنصار جماعة “ستاكوف” عن غيرهم من “الإصلاحيين المسلمين” هو أن “نهضة العلماء” لديها “سلطة دينية” تنافس تلك الموجودة في الشرق الأوسط، ونتيجة لذلك لا يشعر علماء الجماعة بالحاجة إلى أخذ أفكارهم من مؤسسات التعليم الإسلامي التقليدية، مثل الأزهر في القاهرة أو الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
ويخلص تحليل “دورسي” إلى أن “بن سلمان” قد يكون أكثر درامية وجاذبية في طرحه لجهوده في تعريف “الإسلام المعتدل” والتحكم بروايته من “ستاكوف”، لكن الأخير يقدم طرحا يمثل جزءا من مسعى أوسع له تأثير أكثر أهمية على “الإصلاح الديني” في العالم الإسلامي، وليس إصلاح دولة إسلامية واحدة.