صبحي حديدي
كثيرة هي المؤلفات، الصحافية أو الأكاديمية، التي تناولت معضلات السياسة والاجتماع والاقتصاد في المملكة العربية السعودية؛ سواء خلال منعطفات محددة، أو بصفة عامة، وخلال أطوار التأزم الشديد أو الهدوء النسبي. الأسباب جلية بالطبع، وهي لا تقتصر على أهمية المملكة في مستوى النفط والاستثمارات الكونية وصفقات الاسلحة الفلكية.
بل تشمل أيضاً مفاعيل هذه العناصر وسواها في تبلور سلسلة خيارات سعودية إقليمية، سرعان ما يقتضي المنطق اكتسابها أبعاداً إقليمية ودولية. والأمثلة عديدة بالطبع، لعلّ أبرز الراهن فيها ورطة المملكة العسكرية في اليمن، وتقلبات أسعار برميل النفط، وسياسات ولي العهد محمد بن سلمان على أصعدة شتى.
غير أنّ تلك المؤلفات تكاثرت، بصفة ملحوظة، بعد سنة 2015 تحديداً؛ أي بعد وفاة الملك عبد الله، وتتويج الملك سلمان، وتسمية محمد بن سلمان (م.ب.س. MBS خلال السطور المقبلة) ولياً للعهد، والتطورات التي تلاحقت واقترنت بصعود الأمير الشاب وإحكام قبضته على مقاليد السلطة، مشفوعاً بتأييد مبكر من الإدارة الأمريكية والرئيس دونالد ترامب شخصيا.
بعض المحرضات على تكاثر الكتابات كانت متغيرات اجتماعية مختلفة، دراماتيكية بصفة خاصة (الإيحاء بمحاربة الفساد عبر سجن «ريتز كارلتون»، السماح للمرأة بقيادة السيارة، صالات السينما والترفيه، تخفيف قبضة المطوعين…).
ومتغيرات أمنية وقمعية داخلية (اعتقال الناشطات والشيوخ والوعاظ، إعدام الشيخ الشيعي نمر النمر، اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، التضييق على المعارضين)؛
ومتغيرات خارجية (توقيع عقود شراء أسلحة أمريكية بأكثر من 200 مليار دولار، زيارة «سيليكون فالي»، تشكيل التحالف الذي تولى التدخل العسكري في اليمن…).
بعض هذه المؤلفات ينهض على مفارقة امتداح إنجازات م.ب.س.، أو التغزل بها على نحو أو آخر، أو محاباة آل سعود، أو ادعاء الموضوعية تحت سقف النظام عموماً!
لكنها، للمفارقة، يمكن أن تزوّد الباحث عن الحقيقة بمعطيات ثمينة ونادرة حول الواقع الاجتماعي الفعلي، وتتيح بالتالي توظيفاً مختلفاً أكثر فاعلية وجدوى، وأوضح كشفاً للمعضلات الأهمّ التي تعتمل في قلب سيرورات التحوّل أو الثبات.
المثال على هذا كتاب «الشباب في السعودية العربية»، تأليف طلحة فدعق الأستاذة بجامعة أم القرى، وكين روبرتس الأستاذ في جامعة ليفربول؛ الذي صدر بالإنكليزية مؤخراً، عن منشورات بالغريف مكميلان.
وإذْ تتوقف فصول الكتاب عند مسائل التعليم، تزجية الوقت (وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عموماً)، العمل، الزواج والحياة العائلية، الإسكان، وآمال المستقبل… فإنّ خلاصات أقوال الشباب تنتهي إلى أسئلة قلق أكثر منها إجابات طمأنينة.
على النقيض تذهب آراء أخصائي في الشؤون السعودية مثل الأمريكي غريغوري غوز، صاحب كتاب «العربية السعودية في الشرق الأوسط الجديد»، 2011؛ الذي وقّع مؤخراً مقالة عاصفة بعنوان «نهاية طموحات العربية السعودية»، نُشرت في «فوريين أفيرز»، موقع المجلة التي تصدر عن «مجلس العلاقات الخارجية» الأمريكي، ويعود تأسيسه إلى عام 1922.
قصارى قول غوز في هذه المقالة، وكتابات أخرى ذات صلة (أسهم بفصل لافت في كتاب مضاوي الرشيد «إرث سلمان: معضلات حقبة جديدة في العربية السعودية»، بالإنكليزية، عن منشورات جامعة أكسفورد، 2018)، أنّ غالبية طموحات م.ب.س. بصدد «رؤية 2030» تكسرت تباعاً، بل انتهت ركائزها الكبرى المزعومة إلى فشل ذريع.
كانت استراتيجية تلك «الرؤية» تَعِد بتنويع الاقتصاد السعودى على مدى 14 سنة مقبلة، مبتدئة بالتزام مفاده أنّ العام 2020 سيشهد قدرة المملكة على «العيش من دون نفط»؛ طبقاً لتصريح م.ب.س. MBS نفسه.
وهذه السنة القياسية ذاتها كان مقدراً لها أن تشهد تصفية عجز الموازنة، وتوفير مداخيل غير نفطية بقيمة 160 مليار دولار، واستقبال 18,75 مليون على صعيد الحجّ والعمرة.
صحيح أنّ جائحة كوفيدـ19 هبطت بالحجيج إلى 1000 فقط، ومن المقيمين في المملكة حصرياً، إلا أنّ أعداد الإصابات بالفيروس تكشف في ذاتها واحداً من وجوه قصور «الرؤية» إياها: 280 ألف إصابة، أكثر من أيّ بلد عربي.
الصحيح أيضاً أنّ أوجاع المملكة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية والعسكرية، بدأت قبل أشهر طويلة سبقت ظهور الفيروس وانتشاره؛ وقبله أيضاً، شرع م.ب.س. في مغامرات/ مجازفات مثل توريط الخزينة في المشروع الخرافي حول مدينة المستقبل «نيوم»، ورفع ضريبة القيمة المضافة من 5 إلى 15٪، ومناطحة روسيا حول سعر البرميل.
والمزيد من التخبط في اليمن بين صواريخ الحوثي وأطماع أبو ظبي في الجنوب ومسرحية السلطة الشرعية للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي المؤتمر بإرادة المملكة.
ويتوقف غوز عند تطوّر بالغ الأهمية يتصل بأنساق اتخاذ القرار في المملكة، إذْ كان ممكناً في الماضي تجنّب بعض هذه الأوجاع عن طريق مشورة من نوع ما، أو حتى «شورى» نخبوية بين القشرة العليا من الأمراء المتنفذين أو المولجين بصناعة القرار.
أما اليوم، وبعد أن أحكم م.ب.س. قبضته على السلطة بصفة شبه مطلقة (ومفردة الـ«شبه» هنا ناجمة عن بقاء الملك سلمان على قيد الحياة، ليس أكثر!)؛ فإنّ القرار بات أحادياً ورهن إرادة ولي العهد/ الملك الفعلي وحده، ويصعب بالتالي أن يُنتظر منه التراجع عن خيارات قُدّمت للرأي العام السعودي كمداميك كبرى مؤسِّسة لسلطته ونظامه.
وإذ تُسترجع خياراته، «المنشارية» كما يصحّ القول، بصدد اغتيال خاشقجي، أو قبلها احتجاز النزلاء الـ320 في «ريتز كارلتون»، أو أوامره بالتجسس على الهواتف والرسائل الإلكترونية؛ فإنّ رجاحة العقل يصعب أن تُنتظر من حاكم متسلط متفرد كهذا.
كتاب ثالث، وأخير، هو «الانهيار الاقتصادي المقبل في العربية السعودية: منظور سلوكي» أصدره دافيد كوان الأستاذ في كلية بوسطن، ضمن منشورات بالغريف مكميلان أيضاً، سنة 2018؛ حيث الأداء السلوكي، أو بالأحرى:
سوء الأداء، يكتسب صفة مفتاحية في إنتاج وإعادة إنتاج العناصر الكفيلة بالدفع نحو الانهيار الداخلي.
ثمة بُعد اقتصادي بالطبع، قوامه قسر السياسات الإصلاحية القاصرة أو الكاذبة أو الطموحة بأكثر مما يتيح الواقع الفعلي؛
وثمة السياسة، حيث يُجرّ اقتصاد النفط إلى خيارات سياسية إقليمية ودولية تديم تبعية المملكة إلى الخارج بقدر ما تورّطها مع الجوار والإقليم؛
وثمة، إلى هذا وذاك، ما يسميه كوان «ثيوقراطية واقعة تحت التهديد» متعدد الجهات: الوهابية محلياً، التشيع محلياً وإقليمياً أيضاً، الإسلام السنّي المتشدد، الحوثي وإيران، تذبذب مواقف الإدارات الأمريكية إزاء المملكة بين ميل باراك أوباما إلى التعاطي مع إيران وشهية ترامب إلى «حَلْب» المليارات السعودية؛
فضلاً عن تراث طويل من التجاذبات الدينية والفقهية، والاستقطابات العشائرية في صفوف عنزة وبني خالد وحرب ومرّة ومطير وقحطان وشمّر وعتيبة…
وبمعزل عن هذه الأعمال، وسواها كثير بالطبع؛ ودونما انزلاق نحو رياضة التنقيب عن المؤامرة؛ أليس من الجائز القول إن انكسارات م.ب.س. الراهنة، والمقبل منها أشدّ مضاضة كما يلوح، على صلة منطقية ومباشرة بالهموم الراهنة لأحد أكبر رعاة ولي العهد: الرئيس الأمريكي ترامب؟
وإذا صحّ أنّ البيت الأبيض أخذ بيد الأمير في اثنتين على الأقلّ من أكثر ضرباته الداخلية حساسية وحسماً (انتزاع ولاية العهد من محمد بن نايف، وإقصاء متعب بن عبد الله عن قيادة «الحرس الوطني»)؛ ألا تبدو مؤشرات المملكة الراهنة وكأنها تُبطل المبدأ القديم القائل بأنّ الناس على دين ملوكها، وبالتالي قد يكون الآتي أعظم من انكسار الأحلام وانهيار الطموحات؟