بعد فترة من صمت المجتمع الدولي وتوقف السلطات السعودية عن التحقيقات في جريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في الثاني من أكتوبر 2018، أعادت السلطات التركية القضية إلى الواجهة من جديد بعد كشفها معلومات لم تكشف سابقاً.
ومنذ اليوم الأول للجريمة عمدت السلطات التركية إلى قيادة ملف العملية عبر الإعلام أولاً والتصريحات السياسية تالياً، حيث كشفت بشكل متدرج عن خيوط الجريمة ومنفذيها، هادفة إلى إبقائها على قائمة الاهتمام العالمي، فمنعت بذلك العالم من تصديق ما كانت تنكره الرياض سابقاً واعترفت به لاحقاً.
وبعد نحو عام على اغتيال خاشقجي على يد فريق أمني يعمل لدى الديوان الملكي السعودي، وضباط مقربين من ولي العهد محمد بن سلمان، كانت آخر الحقائق التي كشفها الإعلام التركي من منصة صحيفة “صباح”، في عددها الصادر يوم الأحد (8 سبتمبر)، إفادات عدد من عناصر الفريق المنفذ للجريمة أدلوا بها لسلطات الرياض.
وتؤكد تسريبات الصحيفة التركية أن هذه الإفادات التي حصلت عليها “تهدف إلى إخفاء الدور الحقيقي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عملية القتل”.
وبحسب الصحيفة فإن أحمد عسيري، نائب رئيس الاستخبارات العامة السعودية، حاول حماية المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، وولي العهد محمد بن سلمان، وإخفاء مسؤولية الأخير عن الحادث، مؤكدة أن التفاصيل من المحاكمات تبين الدور الذي مارسه “منصور أبو حسين”، وأن بن سلمان في قمة التسلسل الهرمي في الجريمة، وفق قولها.
وأشارت إلى أن القحطاني تواصل مع مجموعة التفاوض التي يشرف عليها، مبينة أنه “لأول مرة يتضح أن المسؤول عن فريق التنفيذ، المكون من ثلاث مجموعات، هو منصور أبو حسين، وليس كما كان يعتقد سابقاً أنه ماهر المطرب، الذي يعد الرجل الثاني في الفريق والمكلف بعملية التفاوض مع خاشقجي”.
ولفتت النظر إلى أن الفريق مكون من ثلاث مجموعات: الأولى فريق استخباراتي، والثانية فريق التفاوض، والثالثة فريق لوجيستي، ومن يرأس هذه المجموعات الثلاث هو اللواء منصور أبو حسين.
الباحث بمركز الشرق الأوسط للدراسات (أورسام) في أنقرة، علي باكير، يرى أن الصحيفة التي نشرت المعلومات الجديدة حول قضية خاشقجي هي قريبة من الحكومة التركية، وذلك يعني أن هناك تعمداً لإخراج هذه الوقائع لها من الجهات الرسمية.
ويقول باكير: “الحقائق التي ذكرتها الصحيفة التركية ونشرتها هي جديدة ودقيقة، وربما تكون حصلت عليها السلطات في إسطنبول من جهات دولية مشاركة في التحقيقات بقضية الصحفي السعودي خاشقجي”.
ويضيف باكير: “السلطات التركية تريد إيصال رسالة للسعودية من وراء تسريبها المعلومات الجديدة التي حصلت عليها في قضية خاشقجي، وهي أنه لا يمكن استبعاد مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن جريمة القتل”.
ويوضح أن المعلومات الجديدة المنشورة تظهر أن القحطاني حاول إخفاء مسؤولية سلمان عن الجريمة، حيث أُظهرت أسماء جديدة، وهو الجنرال أبو حسين.
ويؤكد الباحث بمركز الشرق الأوسط للدراسات أن جميع المعلومات المسربة، التي نشرتها صحيفة صباح، هي “دقيقة وحقيقية، ومأخوذة من محاضر تحقيق في قضية خاشقجي”.
استكمالاً لتفاصيل دامية
نفس الصحيفة التركية كانت قد كشفت لأول مرة عن فحوى التسجيلات الصوتية المتعلقة بمقتل الصحفي خاشقجي، داخل قنصلية بلاده.
وقال رئيس قسم التحقيقات في جريدة “صباح”، نظيف كرمان، في تقرير للصحيفة نشر نوفمبر الماضي، إن التسجيلات الصوتية توضح أن خاشقجي قُتل بوضع كيس على رأسه، وهي توثق اللحظات الأخيرة في حياة الصحفي القتيل.
أضاف كرمان أن آخر الكلمات التي تلفَّظ بها خاشقجي كانت: “أنا أختنق، أبعِدوا هذا الكيس عن رأسي؛ أنا أعاني من فوبيا الاختناق”.
وأوضح أنه قال هذه الكلمات قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، مؤكداً أن عملية قتله خنقاً استمرت سبع دقائق، وهو ما يتفق مع رواية المدعي العام التركي.
وأشار إلى أن فريق الاغتيال وضع أكياساً على أرضية الغرفة لمنع تسرب الدماء في أثناء عملية تقطيع الجثة، التي تمت على يد خبير الطب الشرعي السعودي صلاح الطبيقي، واستمرت 15 دقيقة.
كذلك، نقلت نفس الصحيفة عن مسؤولين أتراك أن قتلة خاشقجي ألقوا بقايا جثته في شبكة الصرف الصحي بعد تذويبها في مادة “الأسيد”.
وأكد المسؤولون للصحيفة أن العينات التي جمعها المحققون من مصارف الصرف الصحي، بالقرب من القنصلية السعودية في إسطنبول، أظهرت وجود آثار لتلك المادة الحمضية.
وقالت المصادر: إن “جثة خاشقجي المقطَّعة تم تذويبها في الحمض، وعند الحصول على مادة سائلة بما فيه الكفاية، سكبها منفذو الجريمة في أنابيب الصرف الصحي”.
لكن مصادر أمنية تركية كشفت لاحقاً لقناة “الجزيرة” أن جثة خاشقجي قد حُرقت بفرن ذي حرارة عالية تكفي لصهر جثة كاملة.
هل تحيي التحركات الدولية؟
ومن شأن المعلومات الجديدة التي كشفت عنها أنقرة أن تحرك المياه الراكدة في المؤسسات الدولية، وتنبه الأمم المتحدة إلى ضرورة عودة التحقيق في قضية خاشقجي، خاصة بعد دعوة تقرير أممي صدر في يونيو الماضي إلى استجواب ولي العهد السعودي.
وكان تقرير الأمم المتحدة الذي أعدته أغنيس كالامارد، مقررة الأمم المتحدة المعنية بالتحقيق في قضايا القتل خارج نطاق القانون، أفاد بأن دليل تورط بن سلمان في قضية قتل خاشقجي يستحق إجراء المزيد من التحقيق من جانب جهة دولية مستقلة ومحايدة، وهو الذي لم يحدث بعد نشر التقرير.
يذكر أنه بعد 18 يوماً من الجريمة، التي وقعت في 2 أكتوبر الماضي، أقرّت الرياض بمقتل خاشقجي داخل قنصليتها في مدينة إسطنبول، وأعلنت توقيف 18 سعودياً للتحقيق معهم.
وأحدثت الجريمة غضباً عالمياً ضد السعودية، كما أكدت تقارير استخباراتية أمريكية أن محمد بن سلمان هو من أعطى الأمر لاغتيال الصحفي الراحل.