حذر الفيلسوف والكاتب البولندي زيغمونت بومان مرارا من أن جميع التدابير المتخذة باسم إنقاذ الاقتصاد، تتحول إلى تدابير تعمل على إثراء الأغنياء وإفقار الفقراء.
وفي هذا الصدد، قالت الكاتبة آنا رودريغيز في تقرير بصحيفة “أتلايار” الإسبانية، إن فلسفة بومان قد تأكدت في أوائل مارس/آذار الحالي، عندما انهارت أسعار النفط العالمية، وذلك على خلفية فتح جرح جديد بين اثنين من أكبر منتجي النفط في العالم -روسيا والسعودية- حول كيفية الرد على التأثيرات المحتملة لتفشي فيروس كورونا.
إن الجروح التي لم تلتئم بعد يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة، تماما كما حدث قبل بضعة أسابيع فقط، عندما دفعت المسافة بين هذين البلدين الاقتصاد العالمي إلى حافة الهاوية، بحسب الكاتبة.
بداية حرب الأسعار
بدأت هذه الأزمة في الظهور منذ 6 مارس/آذار الحالي، ففي ذلك اليوم، عُقد اجتماع بين منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) وعشر دول أخرى منتجة له (أوبك بلس).
وفي ذلك الاجتماع جرى تحليل التأثير المحتمل لفيروس كورونا (كوفيد-19) على هذه الصناعة، وفشلت السعودية في إقناع روسيا بتطبيق سلسلة من التخفيضات في الإنتاج لتعويض الانخفاض في الطلب.
من جهتها، لم تستغرق الرياض بضع ساعات للرد، وقد فعلت ذلك عن طريق خفض أسعار النفط إلى مستويات غير متوقعة، ومن هنا بدأت حرب الأسعار.
وفي سلسلة من المقابلات التي أجريت مع العديد من خبراء المجلس الأطلسي حول النفط والطريق المستقبلي في هذه الصناعة، أشار مدير مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي راندولف بيل، أن هذا الصراع يُفهم على أنه مواجهة جيوسياسية تعزز موقف الولايات المتحدة في سوق النفط.
وحذر راندولف بيل من أن “انخفاض أسعار النفط العالمية الناجم عن فيروس كورونا وضع الأساس لانهيار اتفاق أوبك بلس”، ومع ذلك -في رأيه- كان تأثير الفيروس مجرد واحد من العديد من الأحداث التي تسببت في اندلاع حرب الأسعار هذه.
علاقة روسيا والسعودية
وأضافت الكاتبة أن راندولف بيل يعتبر أن روسيا لم تستجب لخطة أوبك “لمعاقبة” منتجي النفط الصخري الأميركي انتقاما للعقوبات المفروضة على هذا البلد، سواء في خط أنابيب نورد ستريم 2 أو في روسنفت لعملهم في فنزويلا.
وقال راندولف بيل إن العلاقة بين روسيا والسعودية، إلى جانب حرية الولايات المتحدة في فرض عقوبات تتعلق بالطاقة، هي نتيجة مباشرة لنمو الإنتاج في الولايات المتحدة.
من جانبه، يرى مدير مركز أوراسيا التابع للمجلس الأطلسي جون هيربست، أن قرار موسكو عدم القيام بما وافقت عليه أوبك يستند إلى أسباب اقتصادية بحتة.
وأوضح هيربست أن الاقتصاد الروسي في حالة ركود منذ سنة 2013، قبل فترة طويلة من العقوبات وعندما كان سعر برميل النفط لا يزال أعلى من مئة دولار.
وبعد انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2015، كان النمو ضعيفا، ويعتقد جون هيربست أن البراعة الأميركية في تطوير إنتاج الصخر الزيتي وضعتها في مكانة تحسد عليها، بغض النظر عما يحدث في سوق النفط.
ومع ذلك، يعتقد هيربست أن المملكة العربية السعودية بصفتها منتجا في منظمة أوبك، لديها تاريخ طويل في تنفيذ تخفيضات الإنتاج عندما يكون الطلب العالمي على النفط ضعيفا، وذلك لدعم الأسعار، طالما أن شركاءها على استعداد أيضا للحد من الإنتاج.
وفي ظل هذا الوضع هناك اتجاهان جديران بالذكر: الأول يتمثل في اتجاه “انتهاء” العلاقات الروسية السعودية بعد انهيار هذا التحالف النفطي، بينما يتمحور الاتجاه الثاني حول ما تعنيه حرب الأسعار بالنسبة للعملاق الأميركي.
انخفاض النفط العالمي
على هذا النحو، يرى بلاكمور أن الفائز الكبير في هذه الحرب سيكون الصين، حيث إن احتمال تشتت الولايات المتحدة بشكل أكبر بسبب أزمة فيروس كورونا في مجالي التجارة والسياسة الخارجية، يمكن أن يمثل أنباء جيوسياسية جيدة لبكين.
وبالنسبة للعضو غير المقيم في مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي إلين والد، فقد قالت “يبدو أن التحالف بين روسيا ومنظمة أوبك قد انهار بشكل كبير”.
وعلى عكس بلاكمور، تعتقد إلين والد أن روسيا ستفوز بهذا الصراع، مشيرة إلى أن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتمتعان بخبرة وجدية، وليس لديهما سبب للاستسلام، في حين يبدو أن السعودية ومنظمة أوبك يريدان خفض الإنتاج.
وبينت الكاتبة أن خزائن الحكومة السعودية التي تعتمد بشكل كبير على صناعة النفط، قد تتأثر بانخفاض أسعار النفط في حال استمرت أزمة فيروس كورونا مدة طويلة.
وأكثر ما يقلق الباحثة إلين والد هو أن “20% من المستثمرين في شركة أرامكو سعوديون، فضلا عن أن أسهم الشركة انخفضت نتيجة لهذه الأخبار”، وهو ما يمكن أن يؤثر على تنمية البلاد.
ونقلت الكاتبة عن المحلل أندرز أسلوند، العضو بارز في المجلس الأطلسي، أن الانخفاض الحالي في أسعار النفط العالمية سيكون أعمق مما كان عليه عام 2016، وأكثر تشابها مع الوضع في عام 2008. كما يمكن للأزمة الاقتصادية التي سببتها جائحة فيروس كورونا، أن تدفع العالم إلى طلب كميات أقل من النفط لفترة من الزمن.
وأضاف أسلوند أن من المحتمل أن يكون التأثير على الاقتصاد الروسي شديدا ودائما، ففي عام 2008، عندما انخفض سعر النفط إلى حوالي 32 دولارا للبرميل، تراجعت سوق الأسهم الروسية بنسبة 80% على مدار نصف عام، ولم تتعافَ من تلك الضربة.
اتفاق نفطي محتمل
ونبهت الكاتبة إلى أن هناك اتفاقا يمكن أن يغير كل شيء وقد تكون عواقبه وخيمه، ففي الأيام الأخيرة بدأت تظهر شائعات حول اتفاق محتمل بين واشنطن والرياض.
هذا التحالف سيجعل كلا البلدين -أكبر منتج وأكبر مصدر للنفط في العالم- يستحوذان على أكثر من 40% من سوق النفط، وهو تحالف من شأنه أن يسمح لهما باكتساب تأثير كبير عندما يتعلق الأمر بتحديد الأسعار.
قبل أسبوع، قال الرئيس الأميركي إنه مستعد للتدخل للحد من التوترات بين موسكو والرياض، وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف “نحن على علم بالمحن التي تعرض لها قطاع النفط الهائل في الولايات المتحدة بسبب هذه الأسعار”.
كما عارض دميتري بيسكوف استعداد دونالد ترامب للتدخل في العلاقات الروسية السعودية، مشيرا إلى أن علاقاته مع السعودية جيدة، حيث قال “لا ينبغي لأي شخص أن يتدخل في هذه العلاقات”.
وبينما أصبحت الصين أكثر بروزا في المنطقة، فإن حرب الأسعار بين الرياض وموسكو تسلط الضوء على خلافات التعاون بين فلاديمير بوتين وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ومع انخفاض أسعار النفط وسط أزمة اقتصادية عالمية، باتت الولايات المتحدة تتمتع بحرية أكبر في التصرف على الصعيد الجيوسياسي، ولكن هل سنشهد خسارة حتمية لأهمية أوبك في الأشهر المقبلة؟